اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الجنة المنسية

الجنة المنسية

نشر في: 18 فبراير, 2013: 08:00 م

لم أظن ان هناك مكانا يمكن أن يكون أجمل من البحر الى أن رأيت الهور. صحيح ان مجد الأهوار لم يكن خافيا عني، ولا سحرها كان مضموما علي. فقد سمعت وقرأت الكثير عنها، كما أبكاني أحد الأفلام عن مصيرها. وذات يوم شعرت بدَين خاص نحو الأمير تشارلز، ولي العهد البريطاني، عندما انفرد بين العرب والعجم بإدانة جريمة "تجفيف أقدم حضارة حية". وهذه "الثقافة" التي كوَّنتُها عنها كانت قدعبَّأتني بحسرة عميقة على خسارة رؤيتها، وحسرة أعمق على ما حسبت أنه خسارة إمكانية رؤيتها الى الأبد بعدما محتها السياسة القبيحة من على وجه الأرض.

لكن كل ذلك شيء ورؤيتها على الطبيعة شيء آخر تماما. صحيح ان "الشوف مو مثل الحكي" دائما. لكن ليست أي شوفة تشبه أي شوفة، ولا أي جمال يشبه منتهى الجمال.

كانت الأهوار الموزعة بين محافظات الجنوب الثلاث قد شغلت في عزها مساحة 15 ألف كيلومتر مربع. أي أكثر من مساحة لبنان مالىء الدنيا وشاغل الناس بخمسة آلاف كيلومتر مربع. وقد تبوأ لبنان مكانة "الملء والشغل" هذه جراء عوامل كثيرة أبرزها جمال طبيعته وقبح سياسته. وهذه فرادة تحسب له. فلدينا من الجمال في الأهوار ما ننافسه عليه، ومن قبح السياسة ما نزيد عليه أضعافا. لكننا لم نبلغ شأنه في "الفرادة المستدامة"، وانما وصلنا "الفرادة المؤقتة" فقط بكوارث سياسية معدودة. أما الجمال فقد طمرناه على أنفسنا وعلى غيرنا، وأحيانا على نحو متطرف كما فعلنا مع الأهوار.

لكن، ولله الحمد، ها هو بعض الأهوار يعود الى الحياة، بجهود بشرية تستحق الثناء، وبدعم الطبيعة أحيانا كما تفعل الأمطار الغزيرة. في العمارة وحدها عاد ألف ومائة كيلومتر مربع من الأهوار. غير ان هذه العودة تظل منسية ومهملة وناقصة. فنادرا ما يُعنى الناس بزيارتها، أو ربما حتى مجرد التفكير بمشاهدتها. إن أغلبية الشعب مشغولة بدردها. والحكومة تزيد وتراكم عليها الدرد ولا تنقص أو تقلل منه. ثم لا شيء يعود كما كان. فقد تدفقت المياه وعاد بعض السمك والطير لكن الناس اختفت من على سطح الأهوار. عادت الطبيعة واختفت الحضارة. 

وقد هدى الله بضعة أصدقاء إلى دعوتي معهم مشكورين لزيارة العمارة. ومنها تحركنا في صباح مبارك صوب هور "أم نعاج". استغرق الطريق اليه ساعة ونصف. وكان قضاء الكحلاء أهم محطاته، ثم ناحية بني هاشم حيث استقبلنا مديرها السيد عيسى هاشم فالح في مضيفه المُشيَّد من قصب الأهوار.

وحتى هذا الحد ظلت آثار الحداثة واضحة، في أشياء من العمارة والتعليم واللهجة والملبس، وفي ثقافة الرجل البشوش عباس هاشم فالح، شقيق مدير الناحية، وكلا الأخوين أظهر اهتماما بأصول الضيافة وأحداث السياسة وأخبار الصحافة. بعد ذلك أخذت آثار الحداثة تضمر وتصل الى التلاشي تقريبا عند وصولنا قرية البوغنام، حيث توقفنا فيها عند شريعة نهر الأقرع، الذي سننتقل عبره بالبلم، خلال نصف ساعة، الى هور أم نعاج.

يقتضي دخول الهور، بالنسبة الى غير الصيادين المجازين من أهل الناحية، الحصول على إذن رسمي من سلطات المحافظة، يُعرض على مخفر الشرطة الواقع قرب نهاية النهر أو بداية الهور. وهي البداية التي تتفتح عن اعجوبة كيان طبيعي هائل لا تبدو هناك نهاية لامتداده ولا لسحره. ان البحر سطح مائي مطلق بألوان محدودة. أما الهور فان أجمات القصب وجزراته المتفاوتة الحجوم وطيوره المنوعة تغني سطحه وفضاءه بتشكيلات مختلفة رائعة الجمال. كما إن ألوان السماء القوية من فوق، وألوان النباتات الخضراء الخافتة من تحت، تنعكس على سطحه لتبني ثروة لونية مدهشة في ما يخيل إليك انه أكبر وأبهى لوحة رسمتها الطبيعة.

لم تحفر الطبيعة في ذاكرتي منظرا أجمل من الذي رأيته في هور" أبو نعاج". وفي يوم ما كانت بيوت القصب، التي اختفت، تمثل قسم الجمال الانساني من هذا المنظر. ومن تلك البيوت العائمة فوق هذه المياه تكوَّنت أقدم حضارة تواصلت حيةً عبر آلاف السنين. في خمسينيات القرن الماضي عاش رحالة بريطاني عظيم فيها لنحو سبعة اعوام. وهناك، في تلك الجزر الأسطورية "التي لا ينظر اليها أحد دون أن يفقد حواسه"، تنعَّم براحة البال. وعندما غادر عائدا الى بلاده شعر بأنه ذاهب الى المنفى. الآن عرفتُ كم كان محقا. من ذا الذي تمسه الأهوار ولا يحن اليها؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كاطع جواد

    في ستينيات القرن الماضي كانت هناك اغنية رائعة للثنائي عبد الواحد جمعه وجواد وادي وهي (بالهور الجميل العيشة تحلالي) لا ادري لماذا ترتبط صورة هذه الاغنية الجميلة في مخيلتي بصورة الزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله .هل لانها اشتهرت وأذيعت في عصره ام لان الصور ا

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram