ليست هناك غربة أشد وطأة من الغربة الفكرية، الغربة التي يشعر بسببها المختلف بأنه غريب بين أهله وناسه، وتشتد وطأة هذه الغربة كلما كان سبب الاختلاف هو اعتقاد المختلف بأنه مسؤول عن تنوير مجتمعه وإعادة النصاب لقيمه ومعتقداته، فهنا تكون المفارقة مضحكة مبكية بنفس الوقت. بمعنى أنك تضطر لتكريس وقتك وجهدك وتعرض حياتك للخطر من أجل مجتمع يعتقد أغلب أفراده بأنك فيروس ينشر مرضاً فتاكاً يجب مكافحته.
طيب في مثل هذه الحالة ماذا يجب على هذا الغريب أن يفعل، بالنسبة لي وبسبب من إيماني بنوع من أنواع الحتمية، ـ حتمية تشترك بها المورثات الاجتماعية والبيولوجية ثم المؤثرات الجغرافية ـ أجد أن هذا المختلف لا ذنب له باختلافه، فهو لم يختر أن يكون على غير الشاكلة المألوفة لدى جماعته، ولو خلي بينه وبين اختيار مجموعة الظروف المؤثرة بمصيره لما ختار ما يضع هذا المصير على سكة كتلك التي تؤدي لمصير المختلف، وهو مصير يجمع عليك النبذ وكره الأقربين وشك المشككين إضافة إلى تهديد حراس العقائد لك بالليل والنهار.
صحيح أن هناك جماعة أخرى يمكن لها أن تحتضنك، وهي الجماعة التي تشترك معك بنفس الهموم، لكن المفارقة أن هذه الأخيرة لا تقع في أعلى سلّم أولوياتك، فأنت بالأساس لا تعتقد بأن مهمتك بالحياة متعلقة بتوجيه الخطاب لنخبة ما، بل محاولة إنقاذ مختلف طبقات أهلك وناسك من شرك المسلمات الفكرية، سواء أكانت أيديولوجية أو دينية. ومن ثم فلا نفع من وراء دعم الداعمين من مثقفين وإعلاميين، سوى أنه يرفع معنوياتك ويشعرك ببعض الاطمئنان.
أكتب هذه الكلمات وأنا أتابع ردود أفعال الكثير ممن يجدون في اعتقال السيد القبانجي سبباً للتشفي والفرح، وهؤلاء محقون، لأنهم يجدون في هذا الرجل تهديداً كبيراً على ما يؤمنون به، ومن حق أي إنسان أن يدافع عن إيمانه ولو بالعواطف. وهذه هي المشكلة الكبيرة، فإذا كانت أفكار القبانجي هي سبب اعتقاله، فسيشعر بالحزن الكبير عندما يعرف بأن أغلب من كرس حياته للدفاع عنهم ومحاولة إنقاذهم من زيف يهدد وعيهم، وهم في الحقيقة يدفعون بكل ما يستطيعون تجاه الإبقاء عليه خلف القضبان.. لذلك قلت سابقاً وأقول الآن بأن ليست هناك غربة أشد وطأة من غربة الناقد لأفكار جماعته، وليس هناك مصير مكروه كمصير المثقف المعني بإعادة إنتاج بعض مفردات ثقافة مجتمعه.
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
لا ادري وانا اقرأ سطورك هذه يا سيد محسن ،تذكرت احد المواضيع الإنشائية التي تنافسنا بكتابتها في احد مراحلنا الدراسية ..(أنى لكل ظلام العالم ان يطفأ نور الشمعة) العلم نور والإنسان المتعلم نورها وانا اعني هنا الشخص المؤثر بالمجتمع بالإيجاب وليس الأكاديمي ه
ضياء الجصاني
صديقي العزيز الاستاذ سعدون: جميل ان تتصدى لمحنة المثقف التنويري في مواجهة حرس ( المسلمات الفكرية )كما سميتهاوهي محنة سرمدية ازلية اطاحت برؤوس كبيرة مازلنا نهتدي ببعض شعاعاتها حتى يومنا هذا....تحياتي.