صنع حمادي الجبالي، باستقالته من رئاسة الحكومة التونسية، سابقة مشرِّفة في تاريخ السياسة العربية. فهو أول رئيس حكومة حزبي يجد نفسه مختلفا مع حزبه اختلاف تناقض لا رجعة فيه، وأول حاكم اسلامي يضع خدمة الوطن فوق مصالحه الشخصية، وفوق القبيلة والغنيمة والعقيدة، الثالوث الحاكم لـ "العقل السياسي العربي" على ما قال المفكر محمد عابد الجابري.
قبل وبعد "الربيع العربي" احتل مسعى الاستحواذ على السلطة أو الانفراد بها موقع الصدارة من اهتمامات الأحزاب العلمانية والإسلامية. فهي "الغنيمة" التي تشكل مفتاح "تمكين" القبيلة أو الحزب، هي السلطة والثروة التي تُكسى عادة بـغطاء من "عقيدة" دين أو دنيا أو كليهما، من أجل اكتساب نوع من الشرعية. فالحكم من أجل الحكم ليس مقبولا بين البشر.
كل شيء من أجل السلطة. و"العصبية"هي الأداة الحامية لها والعاملة من أجل الاستحواذ عليها. وهذه الأداة أو الآلة هي القبيلة أو الحزب. وبما أن السلطة لا يمكن أن تكون عارية من فكرة ما تمنحها "الشرعية"، تستثمر "العقيدة" للقيام بهذه الوظيفة. والنتيجة هي حكومة سلطة لا حكومة شعب ووطن. هذا هو مصدر الهوة الواسعة بين السلطة وبين الشعب. وهذا هو السبب في تآكل "الوطنية" عند الحاكم والمحكوم. فالوطن مأكول من الحاكم. والوطن يصبح بذلك خرافة أو فكرة لا اساس لها من الصحة في الواقع لدى المحكوم.
الجبالي رأى هذا الواقع ببساطة. واقع مسعى الاستحواذ على السلطة لدى"حزب النهضة" الذي يتولى الرجل أمانته العامة، كما هو مسعى "الاخوان" في مصر. كما هو مسعى "جماعة ربعنا" في حزب الدعوة بالعراق. وقد أخذت تونس في الانحدار نحو الانقسام المجتمعي بين إسلاميين وعلمانيين، ونحو العنف وغياب الاستقرار وتدهور الاقتصاد. ما العمل؟
هناك ثلاثة خيارات. الأول الإمعان في سياسة الاستحواذ على السلطة المؤدية الى خراب البلد. وهذا هو "الخيار الحزبي". والآخر هو تغيير الاتجاه تغييرا جذريا من حكومة حزبية لا تمثل الإجماع، الى حكومة وفاق وطني شامل، يتنازل فيه الجميع للجميع في مرحلة انتقالية تمهد الطريق بسلام نحو الديمقراطية، والثالث "حكومة كفاءات وطنية" غير حزبية تتولى مهمة قيادة المرحلة الانتقالية. وكلا الخيارين الثاني والثالث "وطني". أي يضع مصلحة الوطن فوق مصلحة الحزب.
وقد وجد الجبالي خيار حكومة الوفاق الوطني الجامعة للأحزاب والقوى التونسية متعذرا. لذلك لم ير بديلا عن "حكم الكفاءات المستقلة" أو "حكومة التكنوقراط". كان هذا هو "الحل الوطني" الذي آمن به واقترحه والتزم به، ولاقى أصداء طيبة لدى الأغلبية العلمانية. لكنه رُفض من الاسلاميين، وفي المقدمة منهم حزبه، حزب النهضة الذي واجه خيار الجبالي بعاصفة من الممانعة.
الرجل لم ينحن للعاصفة. قدم استقالته وخرج بذلك من قصة الثالوث الحاكم للعقل السياسي العربي، ليدخل الى فكرة الوطن من أوسع ابوابها. هذه بادرة جديدة في تاريخ الأحزاب العربية عموما، وفي تاريخ الاسلاميين الذين أظهروا نهما لا مثيل له الى السلطة. ولعلها تضاف الى سوابق تونس الفريدة والمجيدة، بدءا من قانون الأحوال الشخصية التقدمي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، مرورا بالدعوة المبكرة والمثيرة عام 1965 الى احلال السلام بين العرب واسرائيل بحل الدولتين، وصولا الى اطلاق شرارة "الربيع العربي".
والواقع ان تونس بورقيبة كانت قد عبرت جميع محطات التقدم الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي لكنها تعثرت ولم تصل الى المحطة الأخيرة، محطة دمقرطة النظام السياسي. ومع سابقة الجبالي يتجدد الأمل بتونس.
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
كما أشرت سيدي تونس قريبة للحضارة لعوامل عديدة لعل ابرزها النهضة الحضارية في تونس التي سبقت العديد من الدول العربية ،كان ولا يزال أمل المثقف العربي بنهضة مصر خاصة بعد نهاية حكم حسني مبارك لكن ما نشهده في تونس هو شيء مفرح فالروح الوطنية الغالبة على العديد
سمير طبلة
... وسيتجدّد، يا صاحبي، ما دام هناك نبض يلهج بالانسان !