TOP

جريدة المدى > عام > شارع الرّشيد... ما ظلّ يحمله أبو عماد عبد الرّضا منتظر!

شارع الرّشيد... ما ظلّ يحمله أبو عماد عبد الرّضا منتظر!

نشر في: 22 فبراير, 2013: 08:00 م

لكلّ مقيمٍ وزائرٍ لبغداد ذكرى بجادة خليل، نسبة إلى الوالي العثماني ما قبل الأخير، التي شقت رصافة بغداد طولاً، من ساحة الميدان وحتى الباب الشَّرقي، ثم عُبدّت فصارت شارع الرّشيد. بين ماضي الرّشيد الزّاهر وحاضره النّافر مضت حقبة طويلة، هي عمر الدّولة ال

لكلّ مقيمٍ وزائرٍ لبغداد ذكرى بجادة خليل، نسبة إلى الوالي العثماني ما قبل الأخير، التي شقت رصافة بغداد طولاً، من ساحة الميدان وحتى الباب الشَّرقي، ثم عُبدّت فصارت شارع الرّشيد. بين ماضي الرّشيد الزّاهر وحاضره النّافر مضت حقبة طويلة، هي عمر الدّولة العراقية، ونظافة تلك الجادة تعكس نظافة بغداد وحيويتها، وبالمقابل يعكس بؤسه الخيبة.

كنا نمرّ ونلحظ لافتات كتب عليها أسماء أطباء، وشعاعيين، ومهندسين استشاريين، ناهيك عن أورزدي باك، والمكتبات والمطاعم، والبداية مِن جهة الميدان بكعك السَّيد. ثم هاجر مَن هاجر، وكم مِن أصحاب تلك اللافتات سبقناهم إلى المهاجر فلحقوا بنا. ما أكتبه في هذه الخاطرة لا يخص مثقفاً أو شاعراً أو أديباً، إنما تاجراً. كنا نلحظ لافتةً نقش عليها وسط شارع الرَّشيد "منتظر وأولاده". كنا نمرُّ مِن على واجهة المحل مِن دون اكتراث وتفكير أن هذا الرَّجل الرشيق الفارع الطُّول، الذي نلحظة أمام المحل، سيكون يوماً مِن الأيام مِن أعزَّ الأصدقاء، ويحكي لنا قصة شارع الرَّشيد ويومياتها لعقود عدّة.

إنه عبد الرِّضا منتظر أبو عماد، الذي نسى النَّاس شهرته بمحله القديم ليشتهر بمكتبة رمضان بلندن، كان يأتي بالكتب العربية من دمشق وبيروت، ومنها كتب دار "المدى"، مستعيناً بالعارفين بعناوين الكتب. كان يشاركه في هذا الغرض المحامي أبو عبد الله رشدي رشيد، عرفتهما سويةً لا يفترقان، وهكذا كان مجلس أبي عماد الصباحي في مكتبته مختلطاً، فهي عِشرة سنين، وبعد المقاتل الطَّائفية كنت أضحك معهما بالقول: كيف تتصرفان عندما تمران ببغداد على نقاط تفتيش تقتل على الهوية! مَن يلوذ بمَن، ومَن يذبح قبل؟! إنها شدائد سُود، لا نقوى على مقاومتها إلا بالسخرية منها!

حكى لنا أبو عماد قصة مجنون شارع الرَّشيد "أبو حقي"، الذي يذرع الشَّارع ذهاباً وإياباً شاتماً الحكومة، بدءاً بنوري السَّعيد، فعبد الكريم قاسم، فعبد السَّلام عارف، فعبد الرَّحمن، وأهل المحال يجيبونه: "حقك أبو حقي"، فشاعت الكنية! إلا أن أبا حقي لم يقدر الحال، فبعد 17 تموز 1968 أخذ يمارس هوايته، وما هو إلا أسبوع ويغيب غيابه الأخير.

تلك واحدة مِن حكايات الرَّشيد، الذي عاد أبو عماد إليه، ولم ير هناك شارعاً، إنما أرصفة تألفها الكلاب والقطط وأحجار ضخمة. رجع مثقلاً بالألم بعد فشله باسترجاع داره، التي بذل فيها عصارة شبابه، فهو لا يدري أن الدُّنيا تبدلت، والأقارب حقيقة صاروا عقارب، فالمستأمن لديهم الدَّار باعوا واشتروا وذهب كلّ شيء، بعد  أن هُجر، وهو يحمل شهادة جنسية عراقية، ومِن (البغادًّة) الأُصلاء.

لم يتكيف أبو عماد خارج العِراق، وظلت المدن في عينه محطات سفر، ينتظر العودة في أية لحظة، ومرت العشرون والثلاثون وأبو عماد ينتظر، وما أن فتحت الحدود دس نفسه في أول قاطرة، لكنه وجد نفسه غريباً فلا الرَّشيد شارعه ولا النَّاس ناسه، ولا الذين كان قربياً منهم في المعارضة كما عهدهم، فتشتت الأحلام وعاد منكفئاً.

اعتقل العام 1963 وهو ابن الثلاثين، لأنه كان يرمي الورد على المسيرات بعد 14 تموز، وينثر "الجكليت" على زعماء الثَّورة، وهم يمرون في الرَّشيد، فواحدة وقعت على رأس فاضل عباس المهداوي(قُتل 1963)، فالتفت وتبسم بوجهه، وحينها لم يُحسب رمي الورد ة والجكليتة على أنها حجارةٌ أو قنبلةٌ.

كان شاباً عندما خلعه عبد الهادي الجلبي(ت 1988) من محله المستأجر منه، لزيادة الإيجار ولما راح مستجيراً به طرده من الباب بالشَّتم، فخسر ما خسر، والشَّاب المقبل على ترتيب نفسه في السُّوق، فالجلبي آنذاك كان صاحب العِير والنَّفير، في العهد الملكي، أما ورثته فأخذوا يتحدثون عن طائفية العهود بلا حساب وكأن الذَّاكرة معطوبة. لكنه في فورة الشَّباب، وبعد 14 تموز، راح أبو عماد يفتش عن الجلبي لينتقم. يقصها علينا ويضحك. 

لم يستطع البراءة مما كان عليه، فضل على اتصال بأصحابه وحزبه الأول والأخير، الحزب الشيوعي العراقي، يتفقد أحدهما الآخر، وظل كما كان في صبيحة ذلك اليوم يستنسخ صور الزَّعيم ويوزعها، إلا أنه ما زال يذكر صبيحة 8 شباط بندم، فكان أحد الذين صفقوا للدبابات التي تحمل صور الزَّعيم عند رقبة الجسر، ظناً منه أنها دبابات أنصاره! فأخذت ألاطفه: لو "عبرتوا الجسر"!

لقد فقدناك يا أبا عماد، ومشتاقون إليك، "شوق النُّوق للعطنِ"!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. مصطفی رابەر

    مَبْرَك الإبل تَحِنُّ الجمالُ إلى أعطانها والرِّجال إلى أوطانها . لمسنا اعمدة شارع الرشید خلال سردکم تأریخ العراق.

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram