TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نوعان من الدول

نوعان من الدول

نشر في: 23 فبراير, 2013: 08:00 م

فرَّق هيغل بين الدول الحقيقية وبين ما وصفه بالدول القائمة على النزوة والصدفة والهوى. وثمة شعوب استطاعت التوصل الى صناعة دولها الحقيقية وأخرى لازالت تكافح. وكلمة دولة في الاستخدام الدارج تعني حكومة. لكن مفهوم الدولة أوسع من ذلك ويعني الكيان المؤلف من إقليم وشعب وحكومة. والإقليم أو الأرض أولا. فالدولة لا يمكن أن تبدأ في التكوِّن من دون أرض. وأرض ذات حدود معروفة ثابتة.

بطريقة ما تهتدي جماعة أو عدة جماعات بشرية الى بقعة جغرافية، أو "تُهدى" إليها، ثم تصير بالنسبة اليها ما يصيره البيت لدى العائلة. وهذا لا يحدث "رأسا"، وانما ينتج عن عملية تاريخية، تتشكل خلالها للجماعة "ذات وطنية"، عبر شبكة من المصالح المادية، وشبكة أخرى من الأبنية الرمزية أو المعنوية. الأولى متعلقة بما يعرف بالخدمات، من أمن وبنى أساسية وصناعة وزراعة وتجارة وتعليم وصحة وما أشبه. والأخرى تتكون من لغة موحدة وتاريخ مشترك وآداب وفنون ووسائل اعلام ورموز مثل العَلَم والنشيد الوطني والجندي المجهول وهكذا.

واذا صادف أن يكون الاقليم مكونا من جماعات مختلفة في الدين والطائفة والعرق، مثل حالتنا، وحالة معظم دول العالم تقريبا، فإن مهمة بناء "الهوية الجامعة"، أو الوطنية، تكون أصعب وأعقد. ذلك أن الانسان لا يقل عن الحيوان، بل يزيد عليه، في الحذر من المختلف والغريب والأجنبي. فالحيوان أكثر تقبلا لأشباهه في الخلق من تقبل الانسان لنظيره في الخلق. مجتمعات الحيوان تخلو من ظواهر الكراهية الناتجة عن التعصب والعنصرية والتكفير الموجودة في مجتمعات البشر.

الحيوان القوي يقتل الحيوان الضعيف حتى يأكل، ولا يقتله أو يسبيه أو يستعبده أو يذله أو يتحكم به أو يبيده ابادة جماعية كما يفعل بنو البشر من أجل السلطة أو العرق أو الدين أو الطائقة. ولذلك فإن عماد بناء الدولة المتعددة عرقيا ودينيا وفكريا هو تقبل الاختلاف أو الخلاف وتحويله الى قيمة عليا. وهذه الأخيرة تولد من رحم قيمة عليا أخرى هي التسامح. 

الخلاف والتسامح قيمتان من أهم القيم الانسانية. فلا إنسانية حقيقية، أي تنتسب فعلا للحق، من دونهما. وهما مهمتان للغاية من الناحية العملية على صعيدي بناء الدول وتحقيق السلام العالمي بين الدول. كل سياسة مجردة منهما هي إما شمولية أو فاشية او عنصرية أو تكفيرية. كما ان كل دولة من دونهما مهددة بالحرب أو التمزق أو عدم الاستقرار في الحد الأدنى. فلا دولة حقيقية راسخة من دون اسمنت رابط بين أفرادها. هذا الاسمنت هو ما يسمى بالوطنية، التي هي ديانة الدولة الحديثة. والخلاف والتسامح هما أهم عناصر هذه الديانة. ومن رحمهما يولد المبدأ الأكبر الحاكم في الدولة وهو "المساواة".

والمساواة مستحيلة اذا ألزمت الدولة نفسها بسياسة الحزب الواحد أو الدين الواحد. بل الدولة نفسها مستحيلة دون المساواة. لقد بدا الاتحاد السوفييتي على مدى 70 عاما دولة راسخة وقوية. لكنه أصبح فجأة أثرا بعد عين. فوق ذلك ظلت روسيا المتبقية منه قلقة. والقلق الذي يمكن أن يتصاعد الى عاصفة يسري في الدول المحكومة بالاسلام السياسي أو الدين أو الطوائف أو الحزب الواحد من مصر والسعودية وسوريا والعراق ولبنان وايران الى كوبا وكوريا الشمالية، لأنها جميعا لا تعرف المساواة، أو تعرفها شكلا بلا مضمون.

دون الخلاف والتسامح والمساواة وبقية قيم الحرية والانسانية تبدو الدول، مهما علا صيتها، بنات النزوة والصدفة والهوى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram