المراكشي ياسين عدنان شاعر، قاص وإعلامي بالغ النشاط. أصدر مؤخراً نصاً شعرياً طويلاً ( "دفتر العابر" دار توبقال) من وحي أسفاره التي قطع بها مدناً غربية (ما من مدن شرقية!) في مرحلة عمره الأدبي المبكرة (من مواليد 1970). "دفتر العابر"قصيدة نثر في أغلبها، وزعها الشاعر على أسطر في هيئة أبيات، الكثير منها موقّع، والأسطر غير الموقّعة، من فرط تدفقها واندفاعتها القلبية، على أهبة أن تقفز إلى إيقاع مُفتقد، إلى إيقاعها المُفتقد.
قرأتُ هذه القصيدة الطويلة قراءة نقدية وهي مخطوطة، وقرأتها بعد نشرها بالاحتفاء ذاته. فياسين يتمتع بلغة حيوية استقاها من نثره القصصي، مرنة وجزلة في آن. متدفقة قلبياً بحيث تترك كل "استعارة ذهنية" وراءها من دون تأثير يُذكر: (جنة النار، غيم النعاس، جسد التيه، إسفلت السهرة...الخ). وبالرغم من أن الشاعر اعتمد البيت الشعري في توزيع الفقرة النثرية إلا أن القارئ، الذي يحب جذوة النثر مثلي، لن يضطره هذا لأن يتقطّع في القراءة تقطّع الأبيات. يصحب الشاعرَ صحبة المستجيب عن رضاً في سفره، أو في "فكرة" سفره، حيث وضعها الشاعرُ في بهو مخيلته، التي تتوزع جدرانها المرايا، فانعكست عليها بأشكال مختلفة، ولكن بجوهر واحد. هذا الجوهر مشدود إلى مراكش، مدينة الشاعر، ولكنه مشدود أيضاً إلى السفر بحمى تبدو أحياناً وكأنها حمى الضرورة الشعرية المفروضة من خارج الشاعر، لا من ياسين ذاته. أحسست بذلك عبر الحالة التالية، التي ولّدت مفارقة في رأسي. فهو في كل أسفاره الغربية: باريس، لندن، أمستردام، بروكسل، ستوكهولم، سان فرانسيسكو، أو داخل الطائرة...إنما يسافر على الحقيقة عن إرادة الراغب المتحمس، مدعواً كان في سفرته أو مسافراً بصورة طوعية. ولكنه داخل القصيدة يخلف انطباع من يعاني برد الاغتراب، الذي نجده عند شاعر مورّط في منفاه لعقود طويلة:
"في مطار هيثرو/ كنتُ أحصي أرواحي في حانة صغيرة...غريباً كحكاية غريبة، وحيداً/ كبطل خارج الحبكة/ متعباً/ كما يليق برحّالة قروسطي/ وكنت أقرأ ابن خلدون.."(ص61)
"سماء كوبنهاجن/ ثقيلة/ حديدية/ سوداء... لكأن السماء/ محضُ إشاعة/ في هذه البلاد. " (ص70-71)
في ستوكهولم "السماء تموت معلّقة/ فوق رؤوس الخلق/ ولا تسقط... بالله عليك أيها الطائر الجنوبي/ ماذا تفعل في برد الشمال." (76-77)
فوق هولندا "لا بحر هناك/ فقط كفنٌ أزرق شاسع يُطبق من فوق." (81)
"في مطار شيكاغو رأيت الحريرَ يصير حديداً/ رأيت الابتسامة تستحيل زجاجاً."(129)
ولكنه على الحقيقة شاعر يغلي السفر في دمه، وما على هذا إلا أن يرى، بفضل السفر، الحديدَ يصير حريراً والزجاجَ ابتسامةً، لا العكس. يقول في مكان آخر:
"لكنني لا أعرف للراحة رصيفاً/ ولا مرسى/ وتُضجرني سكينة الواحات./ قلتُ سأضربُ في الأرض.."(128) ويعلن بصوت عالٍ :
"عمرٌ واحدٌ لا يكفي/ أحتاج أعماراً متلاحقة/ كأنفاسٍ/ لأنصفَ المدن/ وأُعطي الطرقَ حقها/ أحتاج أعماراً مُجنحةً كي أحلق في الأعالي/ بين المدن.." (196)
الإشكال في مفارقة كهذه يجعلني أرى الاغتراب الصارخ من مظاهر "الطبيعة" و"التقدم التقني" في الغرب أشبه بضرورة يمليها التقليد الشائع خارج الشاعر، لا "الضرورة الداخلية".فنحن الشعراء عادة ما يحلو لنا أن نرى الحرير الغربي يصير حديداً، ولكننا نسعى مستميتين للسفر إليه. هذا السعي للسفر إليه هو عماد التجربة الشعرية الداخلية. وياسين عدنان لم يُقصّر في هذا، فالقصيدة برمتها احتفاء بالغ الحماس بمعانقة هذا السعي. ودليلي إليه لا يقتصر على الشواهد التي أوردتها، والتي لم أوردها، بل هذه الاندفاعة الممرورة حيناً، المغتبطة أحياناً، المُستثارة أبداً في لغته الشعرية ذاتها. فأنت لا تملك إلا أن تقرأ النص في نفَسٍ واحد.
ملاحظة إضافية أترك إجابتها مفتوحة: هل في قصيدة "دفتر العابر" الغنائية لحظات درامية كافية؟ أسأل، لأني أعتقد أن القصيدة الطويلة تحتاج إلى مفاصل درامية. فالغناءُ جملةً نفَسُه قصير، ومفاصل الدراما أشبه بمحركات طاقة لهذا النفَس الغنائي المتواصل، إذا ما كان طويلاً.