ما زلت أذكر شاعراً من أهالي سوق الشيوخ بالناصرية التقيته في أواسط السبعينات ببغداد وهو يشكر الله على نعمة أن جعل جيرانه، من الصفحتين، صابئة. ليش؟ تصدّك صار عشر سنين ما سامع صوتهم. هكذا عبر عن وداعة جيرانه بإيجاز شديد. له الحق. فالصابئي إن أردت أن تصفه، ببساطة، فانه وديع ودينه يستحق أن تسميه دين "الوداعة".
أظنه الدين الوحيد الذي مهما قرأت عنه من كتب، برغم أهميتها، فلا يمكن أن تعرف حقيقته إلا إذا عاشرت أتباعه. شخصياً، عاشرتهم منذ طفولتي وكان أقرب أصدقائي منهم. وها أنا قد كبرت وأتذكرهم كل يوم. ومن طبع الذي يكبر أن يتغذى على ذكريات الطفولة والشباب خاصة تلك التي تخص أصحابه. استعرضت ذكرياتي معهم فلم أذكر لهم أثراً سيئاً واحداً، بالرغم من طول العشرة. وهذا أمر يندر في أية صحبة.
لم أسمع بديانة اقترن اسمها بطور غنائي غير ديانتهم. انه طور "الصبّي" الذي يعدّ من أجمل الأطوار الغنائية العراقية وأكثرها شجناً. انه الطور الذي لا يتم بدون أنّة " آ .. يويلي". فما أسمحه من دين!
ولمن لا يعرف الطور الصبي أدعوه أن يعيشه مع الأبوذية التي يبدأ بها حسين نعمة قبل أن يدخل في أغنية "نخل السماوة":
أنشدك عن عزيز الروح ونصار
وما تدري عليه اشكثر ونصار
لون لي بالعشيرة ربع ونصار
عَيَلْ چان اندعوا ويّـاك بيّـه .. آ يويلي
هذه الصرخة لطلب العون والاستنجاد بالعشيرة مثلّه بيان صدر، قبل يومين، عن "هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق". البيان يستنهض همم العراقيين للحيلولة دون تهجير الصابئة من مدينة الناصرية التي تشهد أعمال عنف ضدهم لحملهم على ترك العراق.
و آ .. يويلـي يا أهل الناصرية إن خلت مدينتكم من هؤلاء الذين يقطرون وداعة وحباً. بيان الهيئة يستصرخكم قبل غيركم لتقفوا بوجه "الأساليب الوحشية والفاشية التي مارستها وتمارسها قوى الإرهاب من تنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة وكذلك القوى الإسلامية السياسية الطائفية التي تمارس التمييز بين الأديان والمذاهب الدينية وتنشر الحقد والكراهية في المجتمع".
لا تتركوهم وحدهم فأنهم أهل العراق الأوائل الذين تعمّدوا بمياهه وعمّدوه بأجمل ما عندهم. يا أهالي ناصرية الغناء والحب أنصروهم، فوالله إن ترك المندائيون الناصرية فلا غناء ولا حياة ولا مقام لكم بها.
أذكركم بقصة الشاعر المندائي والمطرب رومي الشعلان من سوق الشيوخ الذي غنى الطور الصبّي لأول مرة. ان كان فيكم من لا يذكره فهو رومي بن سبهان الشعلان من سوق الشيوخ، الذي استدعاه الشيخ ناصر باشا السعدون، بعد أن وشى به أحد "السراكيل" بتهمة انه يأنف من غناء الأبوذية. حضر فهدده الشيخ بفرمان إقطاعي: أما أن تكتب أبوذية وتغنيها، أو أنفيك من الناصرية بعد أن أجلدك. وبعفوية الخائف المرعوب صرخ "آ .. ويلي" فانطلقت من حنجرته صرخة كما البكاء فكانت هي الطور الجديد:
آ ويلي ..
جلد لاچن جفاني اليوم جلداي
وحلّ اليوم بين الخلك جلداي
أغني لو يوذر الشيخ جلداي
لو امشي وتظل داري خليّه
ان رحل "الصُبّة" عنك يا عراق، فيا ألف ألف "آ .. يويلي".
آ .. يويـلـي
[post-views]
نشر في: 25 فبراير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 2
مثنى حميد مجيد
ياهاشم العقابي بأي عطر ، بأي ماء ذهب تغمس قلمك قبل أن تكتب ؟! أخاف عليك من الحسد أخي الغالي فبعض ما تكتب ومنه هذه المقالة يستحق أن يمتدح بأجمل قصائد الشعر . هذا من عجائب العراق أن تمتدح مقالة بشعر فهو غاية في السمو والإبداع كأنك تأتي بقارئك إلى قمة جبل شا
جاسم الاسدي
شئ جميل ان يدافع الانسان عن مكونات مجتمعه المختلفه عنه لكن لكي اصدق من يدافع عن الاخرين يجب ان اراه يدافع عن من ينتمي لهم اولا ومن ثم يدافع عن الاخرين يعني حسب قول اهلنا اللي مابيه خير الى اهله مابيه خير للاخرين