الشيء الوحيد الذي يجعلني أنا ومواطنين كثيرين نسامح السيد المالكي وحكومته على كل ما اقترفته من جرائم في حقنا، أن تعلن للناس أنها فشلت وأنها مارست الكذب علينا طوال السنوات الماضية، وإحدى أمنياتي القليلة في الحياة أن تكون حكومتنا صادقة وهي تعلن ليل نهار وبدأب شديد أن برنامجها في التنمية والاعمار الذي صدعت رؤوسنا به في كل "هوجة" انتخابات، هو مجرد فصول من مسرحية كوميدية ينسج البعض فصولها فصلاً بعد آخر، بالطبع من حق المسؤول الحكومي أن يتحدث عن مشاريع في الخيال، وان يتمنى رغم أن المثل يقول إن "التمني بضاعة المفلسين".
ولأنني مثل غيري من العراقيين أتابع كل يوم خطب الساسة والمسؤولين فقد اثار اهتمامي خطاب السيد المالكي الأخير في البصرة يوم 24 من شباط عام 2013، والذي حدثنا فيه عن مدينة لا وجود لها الا في مخيلة المقربين منه، وانا اتابع الخطاب تذكرت خطابا آخر للسيد المالكي في 24/شباط 2011 اي قبل عامين من الخطاب الجديد بالتمام والكمال، وفيه طالبنا بالصبر والسلوان ولمدة خمسة عشر شهراً فقط لا غير بعدها سنعيش معه في بلاد يغني أبنائها كل صباح "الدنيا ربيع والجو بديع"، وسأحاول اقتبس فقرات من خطاب 2011 والتي جاء فيها:
"1- الكهرباء سيغلق ملفها بعد 15 شهراً من هذا التاريخ فقد تعاقدنا مع شركات عالمية وسنتمتع بالاكتفاء الذاتي وربما نصدر للخارج، 2 - مكافحة الفساد سيغلق هذا الملف نهائيا بانتهاء هذا العام حيث سنلاحق سراق قوت الشعب، 3- الحصة التموينية خصصنا لها اموالا كافية لتحسينها وتوزيعها للمواطنين بشكل عادل، 4- تسلمنا البلاد وليس فيها مشاريع للماء الصالح للشرب والآن هي 70 بالمئة وبعد عام سيصبح حجم الماء الصالح مئة بالمئة، 5- هناك امور لا اريد الحديث عنها مثل البطالة وزيادة الرواتب وهي ملفات سننتهي منها بعد 15 شهراً".
هذا ما وعدنا به السيد المالكي وبالحرف الواحد.. ولكن ماذا حصل؟ مرت 24 شهرا ليعود المالكي ومن البصرة ليقول لنا ان قطار الإعمار سينطلق فانتظروه، ولنكتشف ان الماء الصالح الذي وعد به العراقيين بنهاية عام 2011، يحتاج الى ثلاث سنوات اخرى تبدأ من عام 2013 ونعرف ان هذا المشروع الذي وصفه وزير البلديات بالعمل العملاق لا علاقة لحكومتنا به وان اليابانيين "الله يحفظهم" سينفذون المشروع من خلال قرض ميسر وطويل الأمد.
قبل عام من هذا التاريخ كتبت عن فنان البصرة الكبير "طالب غالي" الذي شاهدت الدموع تترقرق في عينيه حزنا وأسىً على مدينته التي غادرها الفرح، بعدما أصرّ "شلاتيغ" الحكومة وأعوانهم على أن يلبسوها السواد حزنا، ، واليوم اقرأ ما كتبه شاعر البصرة الجميل طالب عبد العزيز عن مدينته التي أحنى الظلم والضيم ظهور أهاليها الطيبين.. ففي مقال يثير الاسى والشجن يكتب عبد العزيز "منذ أكثر من 30 سنة لم يشرب سكان البصرة من ماء حنفياتهم،(كانوا يشربونه عسلا من أنهارهم والله) وكان صدام حسين يهدد أهل الرمادي،بعد حادثة الطيار محمد الدليمي والتي قال فيها قولته المشهورة: (ترى اخليكم مثل اهل البصرة،جليكاناتهم على ظهورهم، يدورون على المي الحلو وما يحصلون عليه) نعم يا صدام حسين، هي سنتك السيئة إذن، نقول لك وأنت في مقبرك الوسخ، أن أطمئن، فها نحن وبعد تعاقب الحكام (الوطنيين) علينا ما زالت (جليكاناتنا) على ظهورنا وبين أيدينا ونشتري الماء الحلو مثلما نشتري البنزين والكاز والغاز".
ولم انته مما كتبه طالب عبد العزيز حتى داهمني التقرير المثير الذي عرضته قناة سي ان ان الامريكية والذي وضعت له عنوان "يعيشون من القمامة في بلد المليارات"، وفيه نشاهد صوراً اعتقد أن السيد المالكي لم يتسن له مشاهدتها.. حيث تتجول بنا القناة في مدن القمامة ويخبرنا كاتبو الفيلم أمرا نعرفه جيدا من ان أغلب الثروة النفطية العراقية تضيع بسبب الفساد وسوء الإدارة، رغم الزيادة الثابتة في الإنتاج.، وبحسب صندوق الأمم المتحدة للأطفال، فإن 23 في المئة من سكان العراق يعيشون تحت خط الفقر.
ويختتم التقرير بهذه العبارة المؤثرة "وقد تكون الديكتاتورية قد انتهت في العراق، كما عادت صناعة النفط فيه للانتعاش، إلا أنه من الصعب جدا رؤية أي تطور يحدث بين أكوام القمامة في مدينة الصدر".
في زحمة اللهاث والصراع على المناصب لا مكان لمراجعة أخطاء الماضي ولا حتى النظر إلى عثرات الحاضر، نسمع فقط من على المنابر الفضائية الشتائم المبطنة والوعيد والتهديد والبكاء على القيم التي يريد العبث بها "ثلة" من المتآمرين.
أعلم أن الرهان على خطب المالكي يبدو مستحيلا، واننا اليوم وبسبب خطب ساستنا الاشاوس، لن يستطيع احد منافستنا على صدارة جدول البؤس الأنساني.