عن عمر يناهز الـ(80) عاماً رحل أخيراً وبهدوء في احد مستشفيات اليابان المخرج ناغيزا أوشيما آخر عمالقة السينما اليابانية وأحد أهم مخرجيها الذين جاءوا بعد جيل المخرجين الكبار (ميزوغوشي، أكيرا كوراساوا)، لقد حقق أوشيما كثيرا من أحلامه السينمائية برغم ما
عن عمر يناهز الـ(80) عاماً رحل أخيراً وبهدوء في احد مستشفيات اليابان المخرج ناغيزا أوشيما آخر عمالقة السينما اليابانية وأحد أهم مخرجيها الذين جاءوا بعد جيل المخرجين الكبار (ميزوغوشي، أكيرا كوراساوا)، لقد حقق أوشيما كثيرا من أحلامه السينمائية برغم ما لقيه من مصاعب وعقبات والتي كادت أن تفقده حلمه الفني، وأن السؤال الذي ظل يداعب مخيلته هو: لماذا لاتكون هنالك سينما طليعية في اليابان تختلف عن سينما الرواد وترتبط بسينما العالم الجديد؟ وجعل السينما على علاقة وثيقة بالأدب ليس الياباني فقط بل والعالمي، فكانت أفلامه الأولى (ليل وضباب فوق اليابان) هي محاولة جديدة لفيلم الفرنسي الآن رينيه (ليل وضباب) وفيلمه (يوميات سارق) هو ارتباط لرواية جان جينيه (يوميات لص).
ينحدر أوشيما من عائلة تمت إلى الساموراي بصلة قوية فقد كان جده أحد ثوار عهد (الميجي)، لكن عيون الفتى أوشيما كانت تنظر إلى الغرب بكل ما يحويه من أفكار وأدب وسينما، وإذا كان هذا التطلع في البداية هو أعجاب وسعي إلى تطوير السينما اليابانية فانه في النهاية قاده كي يدخل الغرب نافضا عن ردائه الكيمونو الياباني، مسيرة أوشيما الطويلة تحمل في داخلها خصوصيتها وهي خصوصية بحاجة إلى رصد منطقي لسرد حياته، وهذا الرصد هو الذي سيفسر الطريق الذي انتهجه.
ولد المخرج عام( 1932 )، وحين هزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية عام(1945)كان عمره 13 عاماً، بدأ الاهتمام بالمسرح وهو طالب في الإعدادية عام(1950) ودخل جامعة طوكيو لدراسة الفلسفة لكن قراره كان أن يصبح ممثلا ومخرجاً، عام(1954) تخرج وانضم كمساعد مخرج في استوديوهات (أوفونا) وكذلك أسس مجلة مختصة بالسيناريو، قرأ كثيرا في كتب الأدب والمسرح والسينما والفن التشكيلي وتابع عروض الأفلام الأوروبية الطليعية التي كانت تغزو العالم آنذاك وتوصل إلى أن اليابان سيكون لها شأن كبير لو انفتحت على الغرب بكل أشكاله الكلاسيكي والطليعي.
عام(1959) يخرج فيلمه الأول (مدينة الحب والأمل أو الفتى الذي يبيع اليمام) عن سيناريو كان قد نشره في مجلته، وقد لفت الفيلم الأنظار إليه، وفيه رسم صورة المجتمع الذي يحدوه الأمل والتفاؤل عبر حكاية محملة برسالة إنسانية، برغم أن الفيلم لم يحقق النجاح المرجو إلا انه كان الفاتحة لفيلمه الثاني (حكاية الشباب القاسية) ويتحدث عن المعضلات التي تواجه الشباب الياباني بعد الحرب الكونية وما يعتريه من آمال محبطة، وهكذا كانت أفلامه التالية تحمل نفس الأسئلة عن الواقع الياباني وهموم الشبيبة، وكان فيلمه التالي (قبر الشمس) وفيه انتبه النقاد الى الانبهار الذي يضعه أوشيما لشخصياته والمواقف التي يضع فيها هذه الشخصيات وهي انعكاس لروح المخرج القلقة، وكانت الأسئلة التي تطرح عن الواقع الياباني هي أسئلة تطرح أولا على الروح القلقة، هذا الفيلم جعل الشبيبة اليابانية أمام خيار واحد فقط هو خيار فقدان الهوية... أوشيما غير كوراساوا فهو لا يهتم بالتراث الياباني العريق (كمسرح النو، الساموراي، الكابوكي، الكيمونو، الساكي ... وغيرها من التقاليد) بل ارتبط بالثقافة الغربية برغم أن هذا الارتباط لم يمنعه من النظر إلى بعض المشكلات اليابانية من باب التمسك بشيء من القيم أو نبذها وهي في طريقها إلى الزوال وكأنها صرخة احتجاج، وجاء فيلمه التالي (ليل وضباب فوق اليابان) وهو واحد من أول الأفلام ( السياسية اليابانية) ويتحدث فيه عن فشل النضال الذي خاضه اليابانيون ضد تجديد معاهدة (أكانوا) بينهم وبين المحتل الأمريكي عبر حكاية تجري في مكان مغلق (بيت) حول مأدبة، عبر حوارات بين شخصيات الفيلم، والتي قدم فيها المخرج نموذجا للفكر السياسي الياباني ونقدا عنيفا لهذا الفكر، كثرة الحوارات جعلت الفيلم أشبه بالخطاب السياسي وهذا الأسلوب سوف يتميز فيه أوشيما، أسلوب الانفجار الشكلي وهذا غير مألوف في سياق السينما اليابانية ( هذا الفيلم سحب من دور العرض اليابانية بعد أربعة أيام من عرضه) ففي نفس الوقت اغتيل الأمين العام للحزب الاشتراكي وسادت اليابان فوضى كبيرة، بعد هذا الفيلم أضطرب أوشيما لاسيما علاقته بالشركة المنتجة، فعمل مع شركة جديدة وكان فيلمه (الفخ) عن رواية (كنتسابورو آوي) وهي حكاية عن آخر أيام الحرب العالمية الثانية كما عاشتها مجموعة من الصغار، برغم أن أوشيما لم يكن راضيا عن هذا الفيلم إلا انه وجد في موضوعه إمكانية أخرى لنقد الواقع الياباني وقد صور الحكاية في زمن غير زمن تصوير الفيلم، فيلمه التالي (المتمرد) كرس نفس وجهات نظر المخرج حول مجتمع ياباني الذي يتطور اقتصاديا وسياسيا ولكنه لا يريد التطور إنسانيا، جاءت بعد هذا الفيلم فترة صمت طويلة إلى أن أخرج فيلمه (اللذات) عام ( 1965 )جاء هذا الفيلم وما تبعه من أفلام حتى عام (1972 ) لتكرس أوشيما مخرجاً ذا سمعة عالمية (يوميات لص، عنف في النهار، دفتر النينجا، أغنيات الجنس اليابانية، صيف ياباني، الإعدام، الاحتفال، أخت صغيرة للصيف) حتى جاء فيلمه المشكلة والذي أحدث ضجة كبرى (إمبراطورية الحواس) وهو أنتاج فرنسي وقد منع هذا الفيلم وحوكم مخرجه إنطاقا من إباحية الفيلم وتصويره للمشاهد الجنسية وكأنه فيلم (بورنوغراف)، وقد كتبه أوشيما بعد أن قرأ خبرا صغيرا في جريدة يقول أن امرأة قطعت قضيب عشيقها وأخذت تطوف به في الشوارع مجنونة حبا، ليتممه بفيلمه التالي (إمبراطورية الرغبة) وهو استكمال لفيلمه الأول متناولا فيه تجربة الجنس في ذروتها، بعد هذين الفيلمين يصور أوشيما فيلما آخر ذا طابع غريب عن الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر يابانية عبر حكاية أسرى إنكليز في معسكرات الاعتقال اليابانية انه فيلم (عيد ميلاد سعيد سيد لورنس) ويعدّ هذا الفيلم من وجهة نظر شخصية أفضل أفلامه اليابانية وتجري أحداثه في (جافا) عام(1942) حيث معتقل لجنود الاحتلال الإنكليز يحاول هؤلاء الأسرى التكيف مع وضعهم الصعب فهم فريسة لضباط غير طبيعيين يحاولون توجيه المعتقلين حسب مزاجهم لتنقلب الآية فيما بعد بتحول دراماتيكي للحرب ويصبح هؤلاء الضباط بدورهم أسرى لدى الإنكليز، لقد وظف أوشيما الصراع هنا بين عالمين متناقضين (وهي مشكلته الازلية) وحضارتين مختلفتين غرب/أوروبي وشرق/ياباني وكانت هذه اللمسة الإنسانية في الفيلم قوية وعميقة ورفعت الفيلم الى نوع من الرؤية النفسية المثيرة والقلق الروحي، ثم يصور فيلمه المقلق والمثير من أنتاج فرنسي أيضا (ماكس حبيبي) ليصدم المشاهد بكثير من الدهشة ذلك الحب غير الافلاطوني بين بطلة الفيلم والشمبانزي!! في عام (2000 )وقد تجاوز الـ (68) من العمر وهو على كرسيه المتحرك مشلولا يصور فيلمه الأخير (تابو) في موطنه اليابان، وهو حكاية عن علاقة حب بين رجلين من الساموراي، ويبدو أن أوشيما لن يكف عن طرح الأسئلة المقلقة عن الشبيبة اليابانية وعن واقع بلاده ونقد كل مظاهر الثقافة ولن يكف الحديث أيضا عن الجنس والموت، ولكن هل استفاد أوشيما من تجربته الغربية ، وماذا بقي من أوشيما الياباني ؟ بقيت منه الروح التي خلدت اسمه كواحد من اهم اساطير اليابان مثل عمالقة الساموراي ومسرح الكابوكي وثورة اليابان الصناعية، بالتاكيد ستمر سنوات طويلة وسيبقى اسمه خالداً يتذكره عشاق السينما مثلما يتذكرون كيراساوا.