TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سوء الضمير

سوء الضمير

نشر في: 27 فبراير, 2013: 08:00 م

الاحساس يترتب عليه وعي، وعلى الوعي يترتب سلوك وعمل. ويأتي الاحساس نتيجة علاقة تفاعلية بين طرفين، ذات مع أخرى، أو ذات مع موضوع. أنت مع ابنك أو صديقك أو رفيقك أو زميلك. أو أنت مع بيت أو شجرة أو كتاب أو لوحة أو مؤسسة أو بلد. التأثر الناشىء عن التفاعل بين الشخص تجاه الآخر، أو الذات تجاه الموضوع، هو ما يسمى الإحساس.

الاحساس الناشىء عن التفاعل بين الآباء والبنين، وهما أقرب الكائنات الى بعضهما، ينتج عنه حب واحترام. الحب يجعل الأب دائم التفكير بأبنائه، دائم العمل من أجل اسعادهم، دائم البذل من أجل تعليمهم وترقيتهم، يحترم حاجتهم الى الحنان ويلبيها، يراعي رغباتهم في اللعب ويحرص على تحقيقها.

إن أهم ما "ينتجه" الآباء هم الأبناء. فالمخلوق البشري هو "أثمن رأسمال" على رأي ماركس. محبة هذا الرأسمال، واحاطته بأقصى اهتمام، وتنميته هي أهم وظائف الآباء. إذا تخاذلوا عن هذه المهام تحولوا الى جناة، الى مجرمين. وهم لا يهبطون الى مثل هذا الحضيض إلا لأنهم من الأصل لم يتفاعلوا تفاعلا طبيعيا أو صحيا مع أبنائهم، ولم يتولد لديهم تبعا لذلك "الاحساس" بهم، الاحساس الذي ينشأ عنه وعي، تنبثق عنه عواطف الحب وواجبات المسؤولية. ان هذه العواطف والواجبات هي التي تؤلف الضمير. وغيابها يعني انعدام الضمير.

لكن قد يصادفك الأب الذي يحس بأبنائه ويحبهم ويريد اسعادهم ولكنه لا يستطيع، لأنه - مثلا لا حصرا- بخيل، كبطل رواية فرانسوا مورياك "عقدة الأفاعي". إن ثلاثة أرباع سعادة الأبناء مصدرها المال، قدرة الإنفاق عليهم. لكن البخل، أو ما سماه مورياك "عقدة الأفاعي"، يضع في جيب الأب عقربا يلدغه اذا تحرك وتبرمك.

إنها "عقدة"، بلا حلال. هي تضغط عليه وتسجن كرمه. وعاطفته تجاه أبنائه تضغط عليه بدورها لكنها تعجز عن تحريره من سجن العقدة المرير. لذلك أصبح الأب مصدر تعاسة الأبناء. انهم لا يطيقونه. في حين أنه يحلم برؤيتهم ضاحكين لاهين سعيدين. فتح ثقبا سريا في باب غرفة مكتبه، مطلا على الصالون، ليتفرج عليهم من خلاله، ولكم كان يسعد حين يراهم يمرحون بين بعضهم أو مع أمهم. في مثل تلك الحالات كان يجد سعادته. وكان يحرم منها اذا جلس الى جانبهم، لأنهم عندها يتخشبون. وهكذا فإن كرمه الفريد تجسد في الحرص على تجنب الجلوس بينهم، حتى يأخذوا راحتهم، ويكونوا على سجيتهم.

ولكم أن تتخيلوا كيف يمكن أن تكون علاقة مثل هذا الرجل بالمحيط الأوسع من عائلته. ماذا يمكن أن يعطي للمجتمع اذا انعدمت لديه قدرة العطاء لعائلته؟

في الحالين، بوجود الاحساس او عدمه لدى البخيل، فإن النتيجة واحدة: مضرة العائلة والمجتمع. وبصرف النظر عن البخل والكرم، اذ يمكن أن يكون الكريم من جهة الحساسية كالبخيل، فإن انعدام الاحساس أو وجوده مع وقف التنفيذ يرتد في كل الأحوال مضرة تتفاوت في حجمها حسب موقع أو وظيفة الشخص في المجتمع.

على أن الأضرار الاجتماعية أو العامة لانعدام الاحساس والضمير تخف في بلدان المؤسسات، لأن الحكم فيها للقانون وليس للأشخاص. فلا الأب ولا الحاكم يستطيع أن يغلظ أو يرق على هواه، لأن القانون له بالمرصاد. لكن يا ويل وسواد ليل البلدان الأخرى اذا نكبت بآباء أو بحكام أو ساسة عديمي احساس. عندها يكون سوء الضمير هو القاعدة، والفساد هو الشريعة، والعذاب هو الطريقة والعقيدة.

اللهم ارحم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram