TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قدح الذلّ

قدح الذلّ

نشر في: 27 فبراير, 2013: 08:00 م

"جدح النوال الياچ يار وحي بديه.. خافن هله ايملون وتعود عليه"

أُردد بيت الدرامي هذا باستمرار؛ لأنه يخفي بين كلماته موقفاً غاية بالرفعة والعصامية، فصاحب هذا الشعر يطلب من روحه أن تسكب، قدح النوال ـ أي الأعطية ـ الذي جاءها؛ خوفا من أن يبخل أهله في يوم من الأيام بعد أن تتعود على طعمه، فيضطر للتذلل من أجل الاستمرار بالحصول عليه. هو يخاف من أن يُسْتخدم تعوده على الأعطية لإذلاله في يوم ما، ولذلك هو يرفض هذه الأعطية من الأساس.

فلسفة عظيمة تلك التي يتضمنها هذا الشعر الشعبي التلقائي، وهي فلسفة غاية بالعصامية، والسؤال الذي يتعبني ـ كما يتعب الكثيرين ـ التفكير فيه هو؛ أين ذهبت الثقافة التي يتحدث باسمها هذا البيت؟

بيت الشعر هذا، عشائري، ريفي، شعبي، فأين تبخرت ثقافته من أبناء شريحة تشكل الآن غالبية العمال والموظفين والمسؤولين والوزراء والبرلمانيين والمثقفين؟ هذا التعالي عن قبول العطايا وهذا الرفض لأي إذلال يمكن أن تتضمنه، كيف تبخر من أخلاق أهلنا ومجتمعنا بحيث صارت كل معاملاتنا اليومية لا تنساب إلا على سكة العطايا والهدايا والإكراميات؟

سرقة المال العام والتفريط بالحقوق وانتهاك القوانين باتت سلوكيات عامة لا تجد تجلياتها في الفسادين المالي والإداري فقط، بل في التعامل اليومي.. في الشارع وفي السوق وفي البيت.. أريد أن أقول بأن المسؤول الذي يسرق البلد لا يمارس جريمته وحده، بل يشترك معه الجميع؛ تشترك معه زوجته التي تقبل الأعطيات التي تأتيها بسبب فساده، ويشترك معه أبناؤه وبقية عائلته وأصدقاؤه، فالكل يعلمون بالسرقة ويسكتون عنها من أجل الحصول على أقداح النوال التي تأتي بسبب الفساد، وهذا اشتراك واضح بالجريمة وتضامن من أجل حماية مرتكبها.

في بيت الدارمي كشف عن الجذور الصغيرة التي تتبرعم من خلالها جرائم الفساد الكبرى، فالشرائح الفقيرة من أبناء مجتمعنا يمثلون المساحة الواسعة التي يقع عليها جور الفساد، لكنها مساحة لا ترفض هذا الفساد بشكل عملي، بل هي مستعدة لممارسته أو القبول به في أي لحظة، وهذا هو المرض الذي نعانيه، فالمسؤول الفاسد لا يمارس فساده خارج الزمان والمكان، بل هو يفعل ذلك بيننا بشكل مكشوف، ونحن لا نرفض جريمته لأننا نريد أن نأخذ قدح النوال الذي يأتينا منه، بينما نطالب الآخرين بأن يسكبوا أقداحهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram