علاقة العرب بالتماثيل ملتبسة، زمنياً، ففي الماضي البعيد والقريب صعدت التماثيل أعلى قليلاً أو كثيراً من قامات الناس لكي تساعدهم على رفع رؤوسهم والنظر عالياً، بخلاف حفر القبور التي ترغم المرء على الانحناء. تمثال الوطن الأم (امرأة تشهر سيفاً) في فولغاغ
علاقة العرب بالتماثيل ملتبسة، زمنياً، ففي الماضي البعيد والقريب صعدت التماثيل أعلى قليلاً أو كثيراً من قامات الناس لكي تساعدهم على رفع رؤوسهم والنظر عالياً، بخلاف حفر القبور التي ترغم المرء على الانحناء.
تمثال الوطن الأم (امرأة تشهر سيفاً) في فولغاغراد (روسيا) هو أعلى تمثال في العالم بني عام 1967 يصل ارتفاعه إلى نحو 85 متراً من أقصى السيف إلى أدنى القاعدة.
قبل الثورة المحمديّة كان للعرب تماثيل كثيرة عرف منها القليل، وكانت في عداد المقدس لأنها تماثيل آلهة تُعبد، لكنّها هدمت إثر اندلاع الثورة المحمدية التي أمرت الناس بعبادة إله واحد، لا أحد سواه، فالفرق كبير جداً، بين تاء سائبة، تصك أسنان الفكين على بعضها بعضاً وهاء تفتح الفم كأنه يهمّ بقضم الحياة.. هكذا هو الفرق الكبير بين الله واللاّت.
الله هو أقدم نحات عظيم استعمل الصلصال (الطين والتراب) لينحت الكون الماثل، وهو أبو النحاتين جميعاً لأنه خلق آدم من تراب.. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ) فلِمَ يخاف الإسلاميون التماثيل؟
النحات، فنّاناً، هو تلميذ صغير لله، أستاذه الكبير، استمد منه الرغبة في الخلق.. خلق "كون" صغير يمتع ويفتن ويغيّر، كأي فن، فتنة للناظرين.
الفتنة، في لسان العرب، بخلاف معناها، اليوم، بما تعنيه من معاني الجمال، بل عدّ القاموس العربي المعتمد اختلاف الآراء نوعاً من الفتنة!
والفِتْنة المِحْنة، والفِتْنة المال، والفِتْنة الأَوْلادُ، والفِتْنة الكُفْرُ، والفِتْنةُ اختلافُ الناس بالآراء.
والفِتْنةُ الفَضِيحة.
العراقيون هم الرواد الحداثويون في العداء للتماثيل عندما كسروا رأس أبي جعفر المنصور باني بغداد، بعيد سقوط نظام صدام حسين، عام 2003، مع أن نصب الحرية، اللافتة العراقية في ساحة التحرير، لم تزل تتحدى الأولين، بعثيو شباط 1963، والآخرين، رواد العداء للتماثيل، اليوم، وقد سبقوا أقرانهم في القاهرة عندما حجبّوا تمثال أم كلثوم صاحبة النداء المخل بالشرف: "خذني بحنانك خذني" وفي معرّة النعمان (سوريا) عندما حطموا تمثال المعرّي الزنديق.
صناعة تمثال من أبسط الأشغال اليدوية، كما يسخر النحات العالمي الشهير رودان، فالعملية، حسب تعبيره، لا تخرج عن حفر ونتوء.
لكن مخيلة الفنان، وحدها، هي من تستولد الشكل الجمالي الذي تفخر به الأمم وتضعه في قلب أشهر ساحاتها.. بخلاف المخيلة الاستمنائية التي تنشط في رأس رجل دين مشبوق ليفتي بحرمة اختلاط الخيارة بالطماطم، وعدم جواز طبخ النساء للباميا لأنها نبات يفرز سائلاً مخاطياً.
للتماثيل أخطار جمة، بخلاف اللوحات التشكيلية، مثلاً، إذ يتاح للناظر أن يرى التمثال، مجسّداً، من جهاته الأربع، ما يعمق إحساس الناظر بتأثير الكتلة أينما استدار، بينما تطالعك اللوحة التشكيلية بوجه مقابل واحد، من هنا يأتي تأثير المنحوتة الفنيّة، وخطرها، فهي تطالعك، وتطالعها، من زوايا نظر متعددة، فيتضاعف التأثير.. تتضاعف الخطورة فيخاف بعضهم من رسالة التمثال لأنها تعترض طريق رسائلهم.
تكمن الخطورة في تجسيد الكتلة البشرية أكثر من غيرها من المرموزات البصرية، التجريدية خصوصاً،
الجسم البشري مثير للفتنة عند النساء الناظرات إذا كان التمثال لرجل، وعند الناظرين الذكور إذا كان لامرأة، وهذا يحدث كثيراً في المجتمعات المكبوتة لا السويّة.
يلعب اللاعبون بالمقدس على هذه الناحية، فيكرسون الكبت (وهم الشبقون) كي تستقيم صناعة الفتوى وتزدهر أوامر التحريم والتفكير وتروج بضاعتهم المغشوشة، وإخصاء الخيال الخلاق ومنع الناس من التمتع بالجمال.
التمثال النسائي يشكل خطورة مضاعفة، في عالمنا الإسلامي/ السياسي/ الثقافي، هذه الأيام، فهو يخترق المحظور ليجسد المرأة في الساحة العامة على مدار الساعة، وهو بهذا الحضور الطاغي يتيح تأويلات متعددة للإغواء والتماهي والانجراف تحت تأثير السحر الأنثوي.
إنه سحر حقاً.. فالأسطورة القديمة، وهي سرد شعبي يختزن الحكمة، مثلما يعبر عن الأهواء العامة، حوّلت بجماليون، النحات العظيم، عدو النساء، من ضحية كراهيته للمرأة إلى عاشق لها، بل إنه نحت أجمل امرأة ونكحها لتلد له ابنة تؤسس مدينة بافوس.
الإرادة الشعبية التي "ألّفت" الحكاية لرفضت العاطفة السلبية للنحات (الكراهية) ونقلتها إلى شكل إيجابي معاكس تماماً: حب المرأة.. حب المرأة في الخطاب الإسلامي السياسي يعني شكلاً من ارتكاب الموبقة برغم أن الشائع عن رجال الدين أنهم شبقيون، أي يعاملون المرأة كوعاء للذة والتفريغ والمتعة، لا ككيان إنساني يتمتع بمستويات عديدة من الوجود والوعي والإبداع.
الأسطورة ليست خيالاً محضاً، لأنها ابتكار شعبي تعنى بحكايات الناس وبطولاتهم "التي تنتقل شفاهاً من جيل إلى آخر وتُحفظ من الضياع بقوة ذاكرة الذين يتوارثونها طبقة بعد طبقة وأنه تخدم غرضين أساسيين، فهي من ناحية تحدثنا بتاريخ الشعوب، ومن زاوية أخرى فهي ثقافة تصويرية تحدد مكانة صاحبها في المجتمع الذي يعيش فيه – حسب الموسوعة البريطانية".
ختاماً، يوجه التمثال، أي تمثال، خطاباً، منذ أبو الهول حتى عباس بن فرناس مروراً بـ (المفكر) صنيعة رودان.. الفنان المغرم بالنساء.
ولأن التمثال يوجّه خطاباً، فهو قيد القبول أو الرفض، نقبله عندما يتوافق مع استعدادنا لـ "الفتنة" والافتتان، والتمتع بالفن وقراءته بجمالية الفن ومحبته أو نرفضه لأنه يتعارض مع خطابنا المؤدلج، النصي، المقدّس، الثابت، فنشوهه، نحطمه أو نزيله.
"وتَنْحِتُونَ من الجبال بيوتاً آمنين" – قرآن كريم.
جميع التعليقات 2
علي الجنابي
المقال يعبر عن خاطرة طالما راودتني فسألت عن سبب تحريم التمثال فلم أجد جوابا مقنعاً عند من سالت.. وعلى أية حال فالمقال وجهة نظر جديرة بالبحث والمناقشة وفي الأوساط الثقافية والفكرية والأدبية وحتى الدينية إن يتسنى ذلك لبعض رجال الدين.
عادل سعيد
الله ليس اقدم مثّال استخدم الطين و التراب لصناعة انسان ، فقد سبقه ، بحسب اسطورة الخلق البابلية ، الإله مردوك ، من العصر البابلي الأول ،حين ادرك حاجة الآلهة الى من يخدمها و يعبدها ، فأنحنى الى الأرض و عجن التراب بدمائه، وصنع من الطين بشرا.