هل هناك لقاء جديد بين الحداثة وفقهاء الشيعة مطلع الالفية الثالثة، يشبه ذلك اللقاء الذي انتج الحركة الدستورية او المشروطة التي طالبت بدستور وبرلمان يقيد سلطة الشاه في القرن الاخير من الالفية المنصرمة في سجالات النجف وطهران قبل ١٠٦ أعوام؟
لا يشاهد المرء في بيروت هذه الايام الكثير من السواح، لكنه يقابل الكثير من الزعماء والثوار والمثقفين المنشقين على أنظمتهم بحثا عن الحرية. ان الربيع العربي جعل السياحة تهرب من بيروت الملاصقة لجحيم سوريا والمشتركة بشرايين اوجاعها. لكن هذا الربيع جاء بيمنيين وبحارنة وسوريين وعراقيين الى لبنان شارحين قضاياهم وباحثين عن خيار تصحيح.
صباحا التقيت علي الديري وهو ممثل بارز لجيل فكري مدني مهم في البحرين وجد نفسه وسط احتجاجات ٢٠١١ المطالبة بسقف عال للحريات. وقبل ان اسأله عن باقي اصدقائنا البحارنة، بادرني بسؤال حول اعتراضات سجلها أصدقاء ومنتقدون على فيسبوك، حين نشرت صورة تجمعني بالسيد مقتدى الصدر، الذي أتيحت لي فرصة طيبة نهاية الأسبوع للقائه والحديث معه ومع عدد من فريقه السياسي. اعتراضات وتساؤلات الأصدقاء حول سعيي للقاء زعيم التيار الصدري، لفتت نظر صديقي البحريني فراح يستفهم عن الحال العراقي.
انني اكتب منذ اربعة اعوام عن تطور أداء النخبة السياسية في العراق كجزء طبيعي من تطور بطيء لكنه سيترك أثراً، والاصدقاء او بعضهم يواجهون صعوبة في تفهم ما اقول. وفي الحوار الذي جمعني بالسيد الصدر والذي سأكتب عنه كلاما مطولا فيما بعد، قلت له، إن مواقفه الجريئة ضد "شهوة السلطنة" لدى فريق رئيس الحكومة، ساهمت بتبديد يأس ثقيل ركبنا حين تعرضنا للضرب في ساحة التحرير. وان السؤال اليوم هو: كيف يمكن لتيار تقليدي ديني ان يدعم مسار التعددية السياسية وهي معطى ليبرالي علماني، ضد مسار الاستبداد الذي يريد قضم الدولة؟ كيف يحصل هذا التطور السياسي وأين سيكون منتهاه. وستسمعون جزءا من اجابات الصدر لاحقا، لكن علي الديري لم يستغرب هذا وراح يحدثني كيف ادى القمع في البحرين الى تحول عميق في متبنيات التيار الديني هناك.
سألني: هل تعرف الشيخ عيسى القاسم؟ اجبت: نعم فقد حضرت لديه دروس اصول الفقه عام ٩٨ في قم، وبعد سنوات تألمت حين قرأت انه يشن هجوما على الشباب الذين يقرأون كتب محمد اركون وعبدالكريم سروش وباقي نقاد التراث الاسلامي. علق علي الديري: الشيخ عيسى اليوم يرد على القمع في البحرين برفض العنف الثوري وبتبني مفهوم الدولة المدنية. أيضاً فإن الشيخ علي سلمان زعيم حركة الوفاق في البحرين، كان في قطيعة مع العلمانيين، إلا انه كسر حواجز القطيعة وراح تدريجيا يؤمن بملكية دستورية تشبه نظام بريطانيا، ويحرص في كل خطابه على تمييز المطالب السياسية في البحرين، عن مشروع ولاية الفقيه الايراني. وهذا ما طرحته وثيقة المنامة كمنطلق لحوار بحريني هدفه الاصلاح. بل ان المنطقة الشرقية في السعودية تشهد تطورا ملحوظا في الفكر السياسي، وعموما فإن الحوار انطلق بين التيار المدني والديني في البحرين والمنطقة الشرقية عموما.
حركة الوفاق البحرينية التي كانت متشددة نسبيا، تقدم اليوم وجوها شابة درست العلوم الحديثة وتدعو لعلاقة سلسة مع الغرب. صاروا يشعرون ان وصفة دولة التعايش المدني، هي التي يمكن ان تحمي التيارين الديني والعلماني معا، بوجه اي ملك او زعيم يشتهي السلطنة والاستبداد.
انه شرق اوسط يتغير اذن، كما تغيرت قبله عوالم مثيرة. ورغم ان الاخوان المسلمين يتورطون بشهوة استبداد تشبه ورطة حزب الدعوة في بغداد، الا ان رجال دين تقليديين بدأوا يقتنعون تدريجيا بأن الشراكة مع التيار المدني والعلماني يمكن ان تسهل تجنب الاستبداد وتضع نواة لعقد اجتماعي جديد.
لقد عادت نخبة ايرانية وتركية من الغرب لتبشر مطلع القرن العشرين بالنظام الدستوري، والامر لم ينجح كثيرا في تحسين الحال لكنه شجع فقهاء ورجال دين على خوض سجال مدني. ووفق المعطيات القادمة اليوم من البحرين وشرق السعودية، ومن النجف وبغداد، فان المرجعية وعوائل دينية عريقة اخذت على محمل الجد استكشاف مفاهيم قادمة من الغرب، ومحاولة اختبارها كحل لمأزق التعايش يمكن ان يخمد او يخفف حروبا بلا نهاية.
انه سجال يشبه سجال المشروطة والمستبدة الذي شهدته النجف وطهران واسطنبول قبل ١٠٦ اعوام ثم انتقل الى كل الحواضر، قبل ان يطفئ جنرالات القومية الحلم ويسلموننا لقرن كامل ضاع تقريبا.
توجد فرصة اليوم لحوار على اعلى المستويات من البحرين الى النجف، يبحث كيف يمكن لشعوب المنطقة ان تجد مساحة اشتراك مصيرية بين الديني والمدني، لتمنع ظهور الظلم وهو يساوي بسط العدل، فالتعدد السياسي او البلوراليزم، نجح في اوربا في كبح شهوة التسلط، وفي وسعه ان ينجح لدينا ايضا. ان تحالف ١٩ ايار او محور "اربيل - نجف" الذي اتحدث عنه يوميا، هو منطلق لحوار مشابه بين الديني والمدني. كما ان الصدر ليس رجل دين يغرد خارج السرب، بل هو في قلب اسئلة لم تنقطع منذ "المشروطة"، وبتياره الشاب يليق ان نسمع اجابات تتطور وجدلا يجعلنا نتبنى الخيار الوطني والمدني ردا على اي تعسف باسم الطائفة، كما يفعل اهل البحرين والمنطقة الشرقية على الاقل. وللحديث صلة.
جميع التعليقات 1
كاطع جواد
سيدي الكريم كلنا نتمنى وكلنا نحلم بعالم فاضل خالي من الاستبداد لكن وللأسف الشديد قد اختفت الأفكار المثالية وحل محلها العمل الخادع والمناورات الكاذبة والشيطنة.. كل الشرفاء من العراقين وغير العراقين يريدون ان تصل سفينتهم الى شاطيء ا لأمان لكن ليس ما نتمناه