يحكى أن راعي أغنام فوجئ بسيارة جديدة تقف قريبا من قطيعه ويخرج منها شاب حسن الهندام ليقول له : إذا قلت لك كم عدد البهائم التي ترعاها هل تعطيني واحدة منها ؟
أعجب الراعي بذلك وأجاب : نعم ، فأخرج الشاب كمبيوترا صغيرا وأوصله بهاتفه النقال ودخل الانترنت ، وانتقل إلى موقع وكالة الفضاء الأميركية ، حيث حصل على خدمة تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية ( جي . بي . اس)، ثم فتح بنك المعلومات وجدولا في "اكسل" وخلال دقائق كان قد حصل على تقرير من 150 صفحة ، وبعد قراءة التقرير بدقة وإجراء بعض الحسابات ، التفت نحو الراعي وقال له : لديك 1467 رأسا من البهائم ،و كان ذلك صحيحا ، فقال له الراعي : تفضل باختيار الخروف الذي يعجبك ، فنزل الشاب من سيارته وحام بين القطيع ثم حشر الحيوان الذي وقع عليه اختياره في الصندوق الخلفي للسيارة . عندئذ قال له الراعي : لو استطعت أن أعرف طبيعة ونوع عملك هل تعيد إلي خروفي ؟
وافق الشاب ، فقال له الراعي : أنت خبير أو مستشار !
دهش الشاب وقال : هذا صحيح ، ولكن كيف عرفت ذلك ؟ فقال له الراعي : بسيطة .
أولاً : لقد أتيت إلى هنا دون أن يطلب منك احد ذلك .
ثانيا : لقد تدخلت في عملي وأنت لا تعرف شيئا عنه .
ثالثا : لقد سعيت لنيل مكافأة عن عملك في الإجابة على سؤال بسيط غير ضروري أنت طرحته ولم تكن تعرف الإجابة عنه ، بينما كنت أنا أعرف إجابته سلفا ، وهذه أسس صفات الخبراء والمستشارين . على كل حال أرجو أن تخرج كلبي من صندوق سيارتك فانه ليس خروفا !
ألا تذكركم هذه الحكاية بجيوش الخبراء والمستشارين عندنا الذين نقابلهم كل يوم في كثير من الأماكن عندنا ؟
هؤلاء الخبراء والمستشارين صنفان :
صنف كثير الكلام فهو " مهذار" و "الهذر " عند العرب هو الثرثرة كما ورد في قواميس اللغة العربية .. و "المهذار" صيغة مبالغة . وهذا الصنف من الخبراء سريع الانكشاف لأنه كثير الهذر ، ومن "هذر" كلامه كثر فيه الخطأ كما تقول العرب .
وصنف لا يتكلم ، تخاله حين تنظر إليه " أبا الهول " في صمته وغموضه ، تتمنى لو تخلى عن هذا الصمت والغموض قليلا لتتحقق من قول العرب " المرء مخبوء تحت لسانه " فلا يمنحك هذا الشرف ولا يتيح لك هذه الفرصة ، بل انه يتركك تموت بغيظك ، رغم أنك لا تحمل له ضغينة ولا تتأبط له شرا . وهذا الصنف أشد خطورة لأنك لا تعرف له قرارا ولا تأخذ منه حقا ولا باطلا .
سوق الخبراء والمستشارين ما زالت رائجة رغم كل الصيحات التي تدعو إلى إخراجهم ، وبضاعتهم لا تزال غالية ، فكلما طرح موضوع أو بدا أمر طلب المسؤولون الرفيعون عنه تقرير خبير ، وهذا الخبير يتحدد نوعه تبعا لحجم الموضوع وطبيعته ، فان كان الموضوع بسيطا كان الخبير فردا أتاه الله من المواهب الخارقة والمعارف الواسعة ما تعجز عنه عقول البشر العاديين ، أما إن كان الموضوع كبيرا وخطيرا فلابد من إحالته إلى بيت خبرة له باع طويل في البحث والاستقصاء ، ووضع المقدمات واستخلاص النتائج ، وإعداد الملفات التي تنوء بالعصبة أولي القوة ، وهنا يكون لكل بضاعة سعرها ، وهذا السعر إما أن يكون مرتفعا ، أو مرتفعا جدا ، والتجارة شطارة كما يقولون .
بقيت نقطة واحدة ، فقد تعودنا أن يكون الخبير طاعنا في السن أبيض الشعر أو الصدغين على الأقل لكثرة ما عركته السنون ، لكننا درجنا في الآونة الأخيرة على رؤية خبراء ، أعمار بعضهم تعادل عمر خريج جديد أو تزيد عليه بقليل ، أولئك في ظننا هم الذين لا يستطيعون أن يفرقوا بين الخروف والكلب كما رأينا في قصة الراعي والخبير التي بدأنا وننهي بها هذه الحكاية التي لا تبدو لها في الأفق نهاية .