TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بورتريت مونيه

بورتريت مونيه

نشر في: 3 مارس, 2013: 08:00 م

حين عدت من السفر كان برد لندن في انتظاري. حجّم حركتي لأيام، مع معرفتي أن أكثر من معرض فني في انتظاري أيضاً. فجأة انقلب المناخ القُلّب، وشاع الدفء، فخرجت أقصد المتحف البريطاني، ففيه معرض عن الفن في العصر الجليدي. مفارقة وجدتها لا تخلو من إثارة. هارب من آثار البرد اللندني ويسعى إلى آثاره بين جليد عصر غابر. ولكني لم أنعم بالمفارقة، لأن مكتب التذاكر فاجأني بنفاد التذاكر حتى الرابعة والنصف عصراً: "لك أن تأتي حينها وستحصل على تذكرة بالتأكيد."كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، ولا سبيل إلى الانتظار. شكرت السيدة وفهمت حينها دعوى الحجز المبكر بالتلفون أو الانترنيت.

    لم أعد خائباً، ففي البال معرض آخر لا برد فيه، بل كثير من دفء أبرز رواد "الانطباعية" الفرنسية: "مانيه". توجهت بحماس إلى قاعات "الأكاديمية الملكية"، لأنها تقدمه هذه المرة كرسام للبورتريت، وبورتريت الحياة الحديثة بشكل خاص، كما ورد في عنوان المعرض. وهذه فرصة ليست يسيرة دائماً، فـ"مانيه" هو الأب الشرعي للمدرسة الانطباعية، ورسام الحياة الحديثة بامتياز.

    ينتسب أدورد مانيه (32-1883) لعائلة غنية، حررت رغبته في أن لا يعيش من فنه. وبالرغم من اعتماده قيافة في الملبس، حتى وهو يمارس الرسم، إلا أنه كان كياناً متمردَ الطبع في داخله.خالف إرادة أبيه في أن يدرس القانون، وانصرف إلى الرسم. مع الرسم خالف ميله الفني إلى "الواقعية"، التي كانت شائعة آنذاك، وصار يربك علاقة اللوحة بالواقع، ولا يلتزم تماسكاً في الأسلوب. رُفض عددٌ من أعماله من قبل "صالون باريس"،القيّم على معايير الفن آنذاك، فاشترك لعرضها في "معرض المرفوضات" الاستثاري. ولقد حققت لوحته "غداء على العشب" الاستثارة المرغوبة. كانت لوحة صادمة، محيرة، استعصت على فهم الجمهور آنذاك، وربما على جمهور اليوم (تشبه استثارتها استثارة لوحته "كولومبيا"). لأن مانيه أراح في وسط اللوحة، وعلى عشب الحقل الربيعي، ثلاثة شخوص باريسية من حياته: رجلان بكامل قيافتهما وامرأة عارية تماماً. انشغال الرجلين بالحديث المرسل، والتفاتة المرأة العفوية إلى الجمهور يمنح انطباعاً بأن الأمر غاية في الطبيعية. ملابس المرأة العارية، قطعة خبز وسلة فواكه. وامرأة بلباس شفيف على مبعدة وسط مجرى الماء. الروائي أميل زولا كتب في حينها مستغرباً بأن متحف اللوفر يظم عدداً من الأعمال التي تعرض رجالا بملابس وامرأة عارية. فلمَ ردة الفعل هذه؟ ولكني أعتقد أن زولا غفل عن إرادة النيةَ المبيّتة لدى الفنان مانيه. فالعارية في اللوحة الكلاسيكية عادة ما تهدف إلى إبراز مهارة أو نزعة مثالية لدى الفنان. لدى مانيه كانت امرأة حية من طبقة باريسية وسطى. يمكن أن تكون أية امرأة بين الجمهور. والمجموعة يمكن أن تكون أية مجموعة باريسية في نزهة. وبالفعل استخدم مانيه زوجته موديلاً للعارية، وأخاه وقريبه موديلاً للرجلين.

انفردت إحدى القاعات الثمان الكبيرة بلوحة واحدة، هي لوحة "موسيقى في حدائق تولييري" لأهميتها التاريخية. الجمهور كالعادة أحاط بها بفضول، فهي لوحة متوسطة الحجم، تضم جمهرة غفيرة من أعلام المرحلة الذي يعرفهم مانيه عن قرب: بودلير، غوتير، فانتان، أوفنباخ... يحيطون بفرقة موسيقية تعزف في الهواء الطلق.  كان مانيه يوافق بودلير على أن الموسيقى هي أرفع أشكال الفنون، لأنها شكل خالص،ولا تعتمد المحاكاة. ولذلك حاول في هذه اللوحة أن يجعل الشكل متفوقاً على المحتوى الوصفي، الذي حوله إلى عناصر بصرية تجريدية، عن طريق تكرار درجات لونية محدودة عبر مساحة الكانفس. ما من تفاصيل واضحة تنقل محتوى المشهد. بل هناك عناصر واضحة لاستثارة العين.

    في المعرض الذي ضم 60 لوحة مستعارة من أماكن مختلفة من العالم، هناك أكثر من بورتريت لأعلام المرحلة من أصدقاء مانيه المقربين: البورتريت الشهير للشاعر الرمزي مالارميه، والآخر للروائي أميل زولا، والفنان ديسبوتان.. دعك عن الآخرين الذين ضمتهم لوحة "موسيقى في حدائق تولييري" آنفة الذكر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram