2-3 سكت فرهاد عن الكلام، وأدار لي ظهره، ونظر نحو طريق الآلام طريق هاملتون، وقال بصوت خفيض، لكنه واضح:" أنا حبة القمح التي ماتت.. لكي تخضر ثانية وفي موتي حياة ما". ثم زفر مرة أخرى وقال: وأنت تعود إلى البيت بيتك..فكر بغيرك وأنت تعود إلى البيت بيتك.
2-3
سكت فرهاد عن الكلام، وأدار لي ظهره، ونظر نحو طريق الآلام طريق هاملتون،
وقال بصوت خفيض، لكنه واضح:" أنا حبة القمح التي ماتت.. لكي تخضر ثانية وفي موتي حياة ما".
ثم زفر مرة أخرى وقال: وأنت تعود إلى البيت بيتك..فكر بغيرك
وأنت تعود إلى البيت بيتك..فكر بغيرك
"أنا فكرت في فلسطين عندما كنت عائداً إلى البيت"
ركض القمر وراءنا، اختفى أحيانا وراء غيمة مبعثرة، صدح صوت هاشري متأوهاً:
لا أريد من الحب غير البداية
يغفو الحمام..
بدا شبح مجمع بيرا مجرون، ينظر إلى جبل سارة التي احترقت في المنام، عندما غنى عزيز: أجريم بوباخ منجور.. أبكي على حظي.
وتلاعبت الرياح مع أنفاس الجبال، التي خلت سمائها من العصافير، مرت سحلية تائهة، نظرت قليلاً نحو المنحدر، ثم اختفت في ثقب، لم يرغب احد بإزعاج الصمت، و سارت السيارة بهدوء نحو المنحدر.
جيفارا يلعب الكرة
في مطعم مظلم في مدينة أربيل، خلا من النساء، كان الزبائن يتحدثون همساً، كما هو الحال في جميع أنحاء كردستان،اعتقدت في البداية أن سمعي قد خف في هذه البلاد، ولكن حين سمعتهم يردون على كل سؤال اسأله بهشش، انتبهت إلى أن هذا يعني أنني تحدثت بصوت أعلى من المسموح به في كردستان.
قال (زهير وهو عراقي) بصوت أعلى من صوت رامون يرد على تذمره من فقر طلابه للمعلومات العامة، حتى أنهم يعتقدون بأن تشيه جيفارا لاعب كرة:" قل لهم بأنه المُلّة بتاع جماعة الصدر". انفجر الجميع ضاحكين، لفتت قهقهاتهم أنظار الجالسين في المطعم. سارع رامون بإطلاق الهشهشة مرّة أخرى، وقال:" غريب بأنهم لا يعرفون تشيه جيفارا ولكنهم يعرفون محمود درويش! . ربما هذا يعود لأن شعار المقاومة الكردية هو الأدب الفلسطيني، الشباب هنا لا يعرفون الشعر الجاهلي، بينما الجميع يعرفون محمود درويش ومارسيل خليفة.
قال زهير:" معاناة الفدائي الكردي شابهت حياة الفدائي الفلسطيني، الفرق بينهم، هو أن معاناة الفلسطيني كانت في الساحل، بينما معاناة الكردي كانت في الجبال".
التقط د. علاء الحديث" بين أربيل وسوليمانية موجود مائتان وخمسون ألف فلسطيني، قال كاكا مسعود البارزاني، بأن أي فلسطيني هو ضيفي. كنت يوماً في بيت عبد الرازق، سمعت ابنه يدندن بأغنية أحن إلى خبز أمي، فسألته هل تعرف مارسيل خليفة؟ فقال لي لدي جميع أغانيه وغنى لي أنا عربي، أنا هنا أعامل باحترام أكثر من أي بلد عربي ذهبت إليه في حياتي".
مال علي د. علاء وهمس:" أرجو أن لا تذكري اسمي، إنا هارب من بغداد، بعد أن قتل زملائي الأطباء، وكنت آخر من هرب، آتاني شخص ونصحني بترك بغداد، لان الميليشيات تبحث عن الأطباء، وأنا فلسطيني، فهربت ولم يبق فلسطيني واحد في بغداد، الميليشيات حولت الهوية الفلسطينية إلى جريمة، في كردستان العراق الحال مختلف،عندما يستقبل مام جلال السفراء العرب، ويصل دور الفلسطيني بالسلام، يقول له أنا كنت فدائياً فلسطينياً ".
سألني رامون:" هل تعرفي بأن صلاح الدين كان كردياً"؟.
ثم أنشد بهمس: هل خرَّ مهرك يا صلاح الدين..هل هوت البيارق
هل صار سيفك..صار مارق
ونقول فلتحيا العروبة
مري إذا في أرض كردستان
مري ياعروبة
الامير رستي
جلس آغا رستي أمير عشيرة بالاك ، على كنبة في غاية الأناقة ببساطتها، في غرفة تشبه في أثاثها مطعم في موسكو الشيوعي، لكن في بيت رئيس البرلمان الكردستاني. تعمم روستي بكيفية فلسطينية بشمرجية، حجبت جبهته، وأظهرت عينين حادتين لمعتا ببريق ساهم بإضاءة غرفة الجلوس شاحبة الضوء،حمل في يده سبحة خضراء بلون زيت الزيتون الطازج، بيد حملت تجاعيد ثمانين عاماً على اقل تقدير،وتمنطق بزنار عريض لفه بأناقة حول خصره النحيل.
رطن بالكردية مع عماد المفتي رئيس البرلمان، الذي لم يخف ِ ابتسامة لا تتناسب وتعابيره الجدية،سألت فرهاد عن موضوع المحادثة؟ قال فرهاد وهو يبتسم :" يتحدثون عن حق المرأة بطلب الطلاق، في حال تزوج زوجها بامرأة أخرى، في ظل القانون الجديد".
سألته ولماذا يهم الأمير روستي هذا الموضع؟
فرهاد: " لأنه يريد الزواج من امرأة ثانية، وهو يقول بان زوجته مريضة".
وسألت فرهاد ان يسأل روستي ، "أي امرأة ستقبل بالزواج من رجل دخل العقد التاسع من عمره، وهل هو قادر جسدياً على ذلك"؟
رطن فرهاد بالكردية مع روستي قليلاً، ثم قال لي:"يعرض عليك الزواج،ومهرك بستان مليء بأشجار الفاكهة".
وسألته " وهل يحق لي الزواج من رجل ثان ٍ في ذات الوقت"؟
ضحك روستي متجاهلاً سؤالي، وقال:" مكانك هنا، انهضي معي إلى البيت، وإن كنت زوجة لا تقوم بواجبها نحو زوجها، سأتركك".
وقلت له "ألا يعطيني مهلة للتفكير"؟
قال روستي:" على النساء أن يدعن التفكير".
ذهب روستي مع أبنائه الذين ضحكوا من قلب رائق على والدهم الذي طلب يد ضيفة الشخص الذي كان وراء قانون منع تعدد الزوجات، عدنان المفتي .
الموساد!!
جلست مقابل عدنان ، وسألته عن علاقة كردستان بإسرائيل، وإذا ما كانوا يعتقدون أن الطريق إلى أميركا هي عبر إسرائيل؟
اختفت الابتسامة عن ملامح عدنان الجدية، وقال تاركاً سبحته من يده، وكأن جدية الجواب لا تحتمل التسبيح "لا توجد علاقة كردية مع إسرائيل بذات قوة العلاقة الموجودة مع مصر أو الأردن. دخل طبيبان إسرائيليان الأراضي الكردية بعد مذبحة الأنفال، وواحد منهم طبيب أسنان، دخلا في حين لم تأت مساعدة عربية واحدة، ماذا نقول لهم نحن لسنا بحاجة؟ ونحن نموت"؟.
ومن دون أن يتخلى عن همسه، الذي اضطرني أن أغير مكاني وأجلس إلى جانبه في ذات الكنبة تابع همسه".انقطعت العلاقة العربية مع الأكراد مع عبد الناصر،الذي افتتح إذاعة كردية في مصر،عبد الناصر التقى طالباني، ومن خلال علاقات عبد الناصر ذهب إلى بيروت، لكن دعم العرب للحركة البعثية أجهض هذا التقارب، وانقسمت الحركة الكردية،لا توجد علاقة إسرائيلية - كردية، الإسرائيليون ربما يدخلون إلى كردستان، مثلما يدخلون الدول العربية، لكن أتحداك أن تجدي إسرائيلياً رسمياً واحداً في كردستان، وأنا لم ألتق في حياتي مع إسرائيلي واحد، لكني التقيت مع ياسر عرفات في منتصف الثمانينات في برلين الشرقية قبل سقوطها بأربعين يوما وكان محمود درويش حاضراً في الاجتماع ،ومحمود عثمان، طلبنا من ياسر عرفات التدخل وان يرى مع صدام أذا ما كان هناك طريق للحوار،قال عرفات بالحرف الواحد هذا متعجرف ومغرور جداً ومع ذلك سأحاول، وبالفعل ذهب إلى بغداد، وأرسل لنا رسالة قال فيها (كما قلت لكم في لقائنا الغرور هي اللغة السائدة). ثم بحدة تجاوزت الهمس قال عماد المفتي:" ليس لنا أصدقاء بين العرب، والأكراد بحاجة إلى أصدقاء، لم يبق لنا عند العرب سوى بعض الشعراء، سميح القاسم صديق الشعب الكردي، هناك قواسم مشتركة بين العرب والأكراد.
يا أخي لماذا لاتنهض
دعاني آغا إلى حفل لتسليم جائزة أفضل فندق وأفضل مطعم في كردستان. كان مكان الاحتفال، على بقعة ناصعة الاخضرار، لا يتناسب اخضرارها والجبال الرمادية المحيطة بها، وكأن الحشيش زرع على عجل لهذه المناسبة، انتشرت موائد مع كراسٍ بلاستيكية بيضاء، جلس حول الطاولات رجالٌ تتوسط وجوههم شوارب كثة، وصلت بين حافتي شفاههم.
على المنصة المرتفعة ، حجلن راقصات بفساتين فسفورية الخضار، أمام شباب تمنطقوا بزنانير رمادية، على سراويل(الرانكوسوار)، واعتمروا كفيات الفدائي الفلسطيني وفدائيي البشمرجة.
بعد التصفيق، زعق رجل في الميكرفون بالكردية، ثم فجأة زعق بالعربية:" كتب محمود درويش عن الطفل الفلسطيني في كردستان، وعن الطفل الكردي في فلسطين"....
وقفت منتصبة أبحث عن محمود درويش، بين الناس ، ثم على منحدرات الجبال، ثم بحثت على قمة جبل سفين، وبدأت اسمع كلمات لم افهمها لكن ترعد في صدري
هايلي فرمانه...هوار
ثم صوت بكاء و أنين يسكن الأحشاء
ويلولو ويلولو
ولول شفان على أوتار السهول المُقتلعة أشجارها وجبالها المُحترقة والموءود أهلها
وشيء آخر
فرمالي هوار هوار هوار
وتركت كويا تتنهد ببيوتها المطلية بالطين
وهمست مستجدية :
جاني ..جاني
عاد صدى الصوت ليهوي أمام هيبة سلطان
وصهلت الرياح على أوتار شفان.
تركت سارة نائمة وفي حضنها أطفال تلفعوا في الصمت
وآباء في انتظار.. على صخور كورك
وأمهات يشهقن في عويل مبحوح
وأشجار على سفر
وأنهر تبحث عن الغرق
وبحر غير موجود
ومحمود درويش
ينادي عليه شيركو بيكاس: يا أخي!