TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حكاية فشل

حكاية فشل

نشر في: 6 مارس, 2013: 08:00 م

كان الشاب جالسا عند أريكة في حديقة عامة عندما حياه صديقه الكهل وجلس الى جواره. تبسم كل منهما في وجه الآخر، وبدا كل منهما مفتوح القلب تجاه الآخر، وتجاه المحيط الأخضر حولهما، وتجاه الجو الذي كان عذبا هادئا. وعلى غير عادته لم يبادر الشاب الى الكلام في الدقيقة الأولى ولا الثالثة، فشعر الشيخ بأن صديقه الشاب أراد في ذلك اليوم أن يترك المبادرة له، ولعل ذلك طاب له فأخذ يتحدث لكن كأنما الى نفسه لا الى صديقه.

- في طفولتي اتخذت قرارا بالفشل ونجحت. وفي شبابي اتخذت قرارا بالنجاح ونجحت. لكنني لم أثق بأن القرار الواعي الذي اتخذته في المرحلتين كان اختيارا خالصا، جاء على هواي، وتوافق مع شخصيتي. فالقرار في الحالتين لم يكن نابعا من ذاتي، ولا معبرا عن نفسي، وإنما كان صنيعة أسباب خارجية.

في الصف الثالث الابتدائي كنت الأشطر بين أقراني. كنت متأكدا من ذلك، وقد سلَّم الزملاء بتلك الحقيقة وصاروا يتعاملون معي على أساسها، بطلب مساعدة في الدروس أو بتقدير أو حسد. تقلدت شريط "فارس الصف"، وعرفت للمرة الأولى متعة التفوق. وكانت المرة الأخيرة. كنا لانزال في الفصل الدراسي الأول. وجاءت نتائج امتحانات ذلك الفصل فإذا بي الثاني! صعقت. فالذي حصد المرتبة الأولى كان دوني، لكن المعلم كان صديقا لوالده.

شعرت بالظلم شعورا قويا. لم أحتج، ولم أعبر عن ذلك الشعور بشكوى أو غضب. لكن السخط سكنني وقررت التراجع، ليس عن موقع الأول على الصف حسب، وانما عن كل مواقع النجاح المميزة، الثاني أو الثالث. لقد قررت الفشل. وترجمت ذلك القرار بالتحول من تلميذ متفوق الى تلميذ عادي.

صحب ذلك تغيرٌ متعمدٌ آخر في شخصيتي. فقد تجاوزت الخجل وأصبحت جريئا، وربما وقحا بعض الشيء، أرتكب بعض المخالفات، ولا ابدو مباليا اذا اشتغلت عصا المدير او المعلم على كفي. بل لعلي كنت أُسعد. ويمكنك وضع ذلك التحول في السلوك في اطار قراري الذي اتخذته بالفشل. كلاهما كان رد فعل. وظل التلميذ العادي، الوقح بعض الشيء، معي الى مرحلة الشباب المبكر. ثم استعدت الخجل يوما بصورة مفاجئة، واستأنسته. كما استعدت الرغبة بالتفوق أيضا، في مرحلة الدراسة الجامعية، واتخذت قرارا بالعودة الى موقع الأول على الصف، وفعلت، لكن من دون رضا بالنجاح أو استئناس له ولا استمتاع بنتائجه.

وكما لم يكن قرار الفشل ذاتيا خالصا كذلك جاء قرار النجاح بنسبة كبيرة من الخارج. جاء تعويضا عن سلسلة خيبات من انهيار أوهام الشباب الواحد بعد الآخر، وتكسر أجنحة الطيران المؤدية للإنتساب الى عائلة أو سرب أو جماعة أو حزب. جاء تعويضا عن فشل في الانتماء، الانتماء الى أي شيء يحميك من وحدة الوحش.

سَأَلَ الشاب: وهل تلقيتَ ثمرة نجاحك؟

- لا. وقد لا يكون هذا مهما. إن من يخسر العدالة في طفولته لن يجدها في بقية عمره. لكنه قد يتعلم ويكتسب حس العدالة.

* وهل فعلت.

- لا أدري. لم أتحرر من وحدة الوحش حتى أدري.

نهض الشيخ وودع صديقه باسما. ولم يُعرف ماذا دار في خلد الشاب من خواطر عن حديث صاحبه. لكن كان ظاهرا على قسمات وجهه أنه لم يعتبره حديث خرافة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram