توصلت تونس الى حل وسط، بين حكومة كفاءات وأخرى وفاقية او توافقية، وهو أن تكون "وزارات السيادة" من نصيب كفاءات وطنية مستقلة. وهذه الوزارات تمثل في الواقع العمود الفقري للسلطة، او "سلطة العنف الشرعية"، الممثلة خصوصا بالدفاع وأجهزة العدالة الجنائية ( الداخلية والعدل، أو الشرطة والأمن الداخلي والقضاء)، وأخيرا الخارجية.
وتعيش تونس مرحلة انتقالية، مهمة البرلمان الرئيسية خلالها إعداد دستور البلاد. وواجب الحكومة الرئيسي، بالاضافة الى المهام المعتادة، هو الإشراف على الانتخابات وفقا للدستور الذي يكون البرلمان قد أنجزه.
وكان ملفتا اسناد وزارات السلطة الأساسية الثلاث (الجيش والشرطة والقضاء) الى قضاة مستقلين. فليس هناك من هم أكثر قربا وتفهما لـ "حكم القانون" من رجال القضاء أنفسهم. ومن شأن هذه خطوة ترميم الخلل الواقع بين الشعب وبين السلطة، خلال الفترة الماضية التي تولى خلالها رجال من حزب الأغلبية (النهضة) معظم حقائب الوزارات السيادية. وهو خلل فقدان الثقة
بين الشعب وبين الحكومة، الذي عبر نفسه بصور ومظاهر عديدة خطيرة، أخذت البلد الى ما يقرب من انقسام حاد بين الاسلاميين والعلمانيين.
والمعتاد في عالمنا العربي والاسلامي ان من يملك القوة (الجيش والشرطة والقضاء) يملك البلاد والعباد. ينطبق ذلك على البلدان في مرحلة الأنظمة التسلطية. كما يسري على بلدان المراحل الانتقالية التي يفوز خلالها حزب أو تكتل في الانتخابات. وقصة "التمكين"، أو أخونة الدولة، معروفة في مصر. ولهذه القصة ما يناظرها في العراق الذي يكاد ينسى أو يتناسى ساسته عامدين حقيقة ان البلد لم يتجاوز "المرحلة الانتقالية"، وانه مازال يعيش في اطارها، طالما لم يحقق المصالحة الوطنية، ولم يتوصل الى اتفاق على خارطة طريق لتوزيع السلطة والثروة.
وفي الحالات التي لا تكون المصالحة الوطنية قد تحققت، وتكون السلطة والثروة فيها بيد حزب أو تكتل حاكم، فإن استخدام مثل هذا الحزب أو التكتل إمكانيات الدولة لمصلحته في الانتخابات، يكون أمرا واردا، بل حتميا. الأمر الذي لا يجعل التنافس عادلا بينه وبين الأحزاب الأخرى التي تخوض الانتخابات وهي خارج السلطة، أو تكون مشاركتها في السلطة شكلية.
إن ما يعرف بالانتخابات العادلة والنزيهة مرهون بحياد أجهزة السلطة وقواها المادية والمعنوية تجاه المتنافسين. فبين من يملك ومن لا يملك لا يوجد تنافس وانما غلبة محسومة. ولعل إنتقال وزارات السيادة من حزبيين الى مستقلين يشكل ضمانة لمثل هذا الحياد في الانتخابات التونسية المقبلة، خصوصا وإن "مسيرة تمكين" حزب النهضة لم تقطع أشواطا منذرة بالخطر، كما أن الجيش وأجهزة العدالة الجنائية وسائر مؤسسات الدولة في تونس حافظت على أوضاعها دون هزات أو تغييرات عاصفة بعد الثورة.
يدعم ذلك ان ارادة "الحل الوطني" بدت قوية حتى داخل حزب النهضة ذي الأغلبية البرلمانية. فقد وقف تيار مهم فيه الى جانب اقتراح أمينه العام ورئيس الحكومة المستقيل حمادي الجبالي الداعي الى تشكيل حكومة تكنوقراط، أو حكومة كفاءات مستقلة. وقد يكون من السابق لأوانه الحكم على امكانية أن يقود الحل الوسط التونسي المرحلة الانتقالية الى بر الأمان. لكن من المؤكد أنه يعد خطوة وطنية معبرة عن عقلانية متقدمة في السياسة التونسية.
مرة أخرى يقدم هذا البلد الصغير مثلا كبيرا يصلح أن يكون مرشدا للسياسة في العالم العربي.
الحل التونسي
[post-views]
نشر في: 9 مارس, 2013: 08:00 م