هل أقول صحبني عبدالله صخي في روايته الثانية (دروب الفقدان) "*" دليلاً إلى أحزان منسية أم إلى فتنة حكائية باذخة؟
كلا الأمرين تناوبا عليّ أثناء القراءة فتارة أبكي على سوادي حميد وثانية أمتطي حصان اللوحة مع علي سلمان وثالثة أستعيد مناخات وأماكن ودروب مفتقدة، وأنا ابنها الغريب عنها، اليوم.
استعدت وجوهاً من زمن الحرمان والرماد والطين والأزقة الموحلة والوحشة والمقاومة والكبرياء.
احتشدت الرواية بزخم من الحنو على شخصيات تكافح بطاقة الحد الأدنى مما يمتلك البشر، مثلما تعاقبت على صفحاتها أحداث ومواجهات ومصائر لم يقربها أحد روائيينا من قبل عندما اقتصرت الرواية العراقية على أحداث العاصمة في أغلب ما عرفناه من نماذجها، فجاءت تجارب هؤلاء الروائيين لأسباب تخصهم، أو لا تخصهم، موكولة بهموم العاصمة الكبيرة، ولأنهم على مقربة من مؤسسات الدولة ورموزها واسمنتها المسلح جاءت سردياتهم، ربما – أقول ربما – لصيقة هذا القرب وذاك التماس وهذه العلاقة المنظورة واللامنظورة ليشيحوا بوجوههم عن قطاعات عراقية يجهلونها، بل أن بعضهم في عداد مَن يسخر من أهلها ولهجتهم وأخلاقهم بشكل استعلائي واضح.
مع أن ثمة مَن وصف بغداد بأنها قرية كبيرة تحمل من ملامح الأرياف الكثير، إلا أن الريف العراقي ظل بعيداً عن متناول اليـد الروائية المنصفة لولا الشهيد شمران الياسري (أبو كاطع) في رباعيته وسائر حكاياته وأعمدته الصحافية المعروفة التي نقل فيها حياة مهمشة مع سبق الإصرار والترصد ووضعها على طاولة النقــد العراقي وبين أيدي قرّاء أحبوها وأعجبوا بها أو نظر بعضهم إليها بارتياب.
إذا كان أبو كاطع رصد الريف في مكانه الثابت، هناك، فإن صخي لحق بالمهاجرين الهاربين من عسف السلطة وإقطاعها القاسي إلى أمكنتهم البعيدة، على أكتاف بغداد، التي صارت هامشاً ثانياً بعد تهميشهم الأول في قراهم الجنوبية، لتزداد خيبات أملهم بوعود لم يقطعها لهم أحد، حتى عبدالكريم قاسم التي أخفت مكية الحسن صورته مع صورة ابنها المغيّب علي سلمان، لم يمنحوه أية فرصة ليفي بوعوده كاملة لأنهم قتلوه.
لعبة الفرجة ليست من شؤون المسرح فقط ، فعبدالله صخي قدم مشاهده الدرامية بما يشبه، كثيراً، فرجة روائية ممسرحة، عندما تعتلي الخشبة شخصية جديدة غير متوقعة تحمل للقراء/ النظارة ملامح مختلفة وأحزان غير مألوفة ونوازع إنسانية تخصها وحدها.. هكذا تتابعت شخصيات الرواية أمام أنظار قرائها بمزيد من الحيوية والتلقائية والتدفق.
مكية الحسن ومديحة وسوادي حميد ونايف الساعدي وعلوان عزيز وكاظمية محمد وأم إبراهيم وبدرية (بدراو) ومهدي جابر وبشار رشيد ورجاء (الحضرية) والملا عيسى وآخرون، شخصيات روائية ستبدو معروفة حتى لمن لا يعرفها.. شخصياً ما زالت ذاكرتي مثقلة بهم وروائح نسائهم تخفق في مخيلتي ودماء قتلاهم تسيل من جسدي.
شخصيات تعاضدت في الحياة لتتساند في الرواية تحمل إحداها الأخرى وقت التعب وتخفف عنها المحنة وتبادلها الدموع والزغاريد.
(دروب الفقدان) من الكتب التي يُقال عنها، حقّاً، إنها ملأت فراغاً على رفوف الروايات العراقية لأنها جاست مناطق مجهولة في أرواح الناس وأماكنهم ورافقتهم بحنان في مسيراتهم نحو المجهول، وأعادت الاعتبار لجمهرة واسعة من فقراء العراق ومضطهديه، ورسمت الألم الشاسع باللهجة الشعبية وإن كتبت بالفصحى.
الرواية شهادة على زمن قاسٍٍ قدمها كاتبها بشجاعة وأمانة، وإذا جاء منحازاً لبعض خيارات شخصياته سياسياً، إنما انحاز بمسؤولية الكاتب على ضوء إحساسه بضرورة الانضمام إلى مسيرة عصره، حتى لو كانت متعثرة، نحو تحقيق الجمال والعدالة الاجتماعية.
___________________
"*" إصدارات دار (المدى) 2013
دروب الفقدان
[post-views]
نشر في: 11 مارس, 2013: 08:00 م