أتساءل تُرى ما الذي يجعل عرضاً مسرحياً مهماً وكبيراً ، ثم متميزاً عن غيره من العروض ؟ وما الذي يجعل من المتفرج يشير الى عمل ما بأنه عمل إبداعي وغيره من الاعمال لا إبداعية ؟ ما الذي يُمَكن مخرجا بأن يكون عرضه مثيراً للجدل ، وغيره مخرجاً لا يُثير
أتساءل تُرى ما الذي يجعل عرضاً مسرحياً مهماً وكبيراً ، ثم متميزاً عن غيره من العروض ؟ وما الذي يجعل من المتفرج يشير الى عمل ما بأنه عمل إبداعي وغيره من الاعمال لا إبداعية ؟ ما الذي يُمَكن مخرجا بأن يكون عرضه مثيراً للجدل ، وغيره مخرجاً لا يُثير اي جدل ؟ وبذلك يمكنني (انا) كقارىء لهذا العرض الذي قرّبني كثيرا من حليم هاتف وأبعدني كثيرا من مؤلف النص ومخرجه سابقا ( جواد الاسدي) ، لان ما يميزالاول عن الثاني ليس أكثر من امتلاكه للرؤيا الاخراجية وعدم وجودها لدى جواد الاسدي في عرض مسرحية (حمام بغدادي) التي أسماها حليم هاتف (سفر – طاس) .
لقد عمد المخرج ( حليم هاتف ) الى ازاحة ما استقر عليه النص (العنوان ) من (حمام بغدادي ) إلى (سفر - طاس ) ما جعل أولى التساؤلات تلمح في وعينا عبر تحريك روحية التواصل ، سفر مفردة تحيلنا الى أشياء كثيرة وما تحمله من معانٍ تنضوي تحت مظلة هرمونطيقية ، و طاس ، تلك المفردة الشعبية الغائرة في العمق ، وما تشكله من فكر شفاهي ، فان تينك المفردتين المركبتين بفعل (رؤيا حليم هاتف الاخراجية ) ، كانت تشير الى الاحداث من دون ان تدخل في صميمها مطلقا ، وبذلك فأن تحريك المداخل النصية في حمام الاسدي ادى الى تحريك باطن الاحداث ان كانت ثمة بواطن في الموضوع ، ( سفر - طاس) حليم هاتف كان اقرب الى الروح الشعبي العراقي ، كان الاقرب الينا نحن الهامشيين ، لذا اجد في حمام بغدادي أن فقر الرؤية الاخراجية قد تعكز كثيرا جدا على روعة النص وأداءات الممثلين وقدرتهم الكبيرة على التأثير فينا ، كان ( فايز قزق / مجيد ، و نضال سيجري / حمود ) ساحرين يفهمان كل كلمة عراقية شعبية نطقاها، وكانا يعيان كل حركة وضرورتها ، بحيث كانا مهندسين مبهرين جدا ، لذا فقد بدا التمثيل والنص طاغيا بقوة على كل ما له علاقة برؤيا المخرج ، ما ادى الى تلاشي اية رؤية اخراجية ، فالنص الذي قرأته يقترح وجودهم في حمام أولا وثانيا في الحدود بين العراق – الادرن ، وبقي الحمام نصيا والحدود كما هي في النص ، اي ان جواد الاسدي لم يتعدَّ ما قام بكتابته في النص ، بل جعله كخارطة طريق سار على ما فيها ، الا ان التمثيل كان يمتلك حريته التي تجاوزت حدود النص لان الممثل كان عليه ان يتلفظ بمفردتين ( شعبية عراقية – عربية فصيحة ) وهو ما منح الممثل القدرة على التلوين أداءً ومنحه فضاءً لتغيير اسلوب نطق المفردة وتحميلها تأويلات ممتعه للمشاهد ، فمع سكونية الفضاء في حمام بغدادي كان هنالك حراك المفردة والتمثيل ، ونص الاسدي كان نصا بارعا بُني بشكل عصري وان احتفظ بخط درامي متصاعد ، الا أن الشخصيتين كان لكل منهما فضاؤه الخاص به والذي ذاب في فضاء الحمام . نجح النص والتمثيل كثيرا جدا في هز ذائقتنا الفنية والفكرية والجمالية ، إلا ان تهاوي رؤيا المخرج قد أثقلت عملية التلقي ، لأنني كلما استمتعت بالتمثل والنص برزت لي فكرة غياب رؤيا إخراجية ، كان العرض بحاجة إليها ليكون عرضا متلاحما ، تنسجم فيه كل العناصر التي عملت في بنائه بمعنى إن يكون عرضاً متكاملا .
وفي سفر - طاس حليم هاتف ، تكون العملية كالآتي ، نجد مخرجا يتحلى برؤيا إخراجية واضحة للعيان ، ونجد فضاءً متحركاً وفاعلا ، بحيث نتنقل في كل فضاء العرض مع ما يفاجئنا به من أشياء جعلت من جسد العرض نابضاً بالجمال ، فالماء كل شيء في العرض ، الماء على الجدران ، والماء على أرض التمثيل وأجساد الممثلين ، فقد كان حمام حليم هاتف حماماً ليس مادياً كحمام الاسدي ، اي ان حمام حليم هاتف لم يكن مكانا لعرض الأحداث ، بل كان حماما يشتغل على الجسد والروح ، الماء هو المكان وهو الزمان للأحداث ، وتلك كانت من اهم مؤشرات الرؤيا الإخراجية التي امتلكها عرض (سفر – طاس ) ، الفضاء يتحرك والممثل يزيد من هذا الحراك ، الفضاء كان داعما ودافعا لفعل التمثيل ، وليس العكس ، فقد جاءت امكانات التمثيل التي ظهرت لدى الممثل الشاب أنس راهي ، جاءت بفعل ارتقائه والرؤيا الاخراجية التي صنعت ذلك الأفق المتحرك والمتجدد طوال زمن العرض ، وذلك بسبب عامل الصناعة والابتكار ، إذ ان سفر- طاس بُني على صناعة حمام داخل قاعة صغيرة ، وتلك الصناعة هي التي ساعدت كثيرا في توجيه دفة التشكيل والرؤيا الى ما يريده المخرج ومن معه ، لان جهوزية المكان لدى الاسدي حددت كثيرا تشكيل الرؤية ومعماريتها ، بينما تشكيل فضاء مبتكر عند حليم حدد معمارية المكان وفق رؤيته التي يبغي فنجح في ذلك كثيراً .