في أواخر التسعينات من القرن الماضي وجد عراقيو المنافي، في مواقع "الثرثرة" على "البالتوك" في الانترنت، وطناً افتراضياً virtual. بنوا في وطنهم الجديد غرفاً أطلقوا عليها أسماء مختلفة. كانت الأسماء تحمل دلالات، إذ يمكنكم من اسم الغرفة أن تعرفوا أهدافها أو من هم أهلها. فهناك "قهوة عزاوي" و "بغداد" و "الناصرية" ولا تستغربوا إن وجدتم غرفة تحمل اسم "الكلاوجية" أو "الحرامية". وفيها غرف مسوّرة لا يدخلها إلا من يحمل جواز مرور (باصوورد). وهناك غرف تخصصية بالشعر والفن والغناء والرقص وبعضها للطم. أشكال وأرناك.
قصدها في تلك السنين شعراء وأدباء وفنانون عراقيون معروفون. أغلبهم كان يدخل بأسماء مستعارة وقليل منهم باسمه الصريح. كثيراً ما يصدف أن يجتمع في غرفة واحدة عراقيون من سبع قارات. نشأت في تلك الغرف صداقات حميمة وعداوات لم يصنع مثلها حداد من قبل. في الأيام الأولى لنشأتها كانت محطات للتعارف والاستمتاع. لكنها سرعان ما تحولت إلى أماكن للنزاعات والصراعات الطائفية والحزبية والعشائرية. هي نفسها صراعات العراقيين في الوطن الواقعي اليوم وأمس وغداً.
كنت أدخلها باسم "فرات" وصارت الناس تعرفني به حتى أن بعضهم التقيته في عالم الواقع وظل يناديني بنفس الاسم. عشرات من الأسماء تعرفت عليها. نسيتها كلها تقريباً إلا "علي داده". كان هذا هو الاسم المستعار لشخص ذاع صيته وصار بطلاً شعبياً في عراق الانترنت.
ما حداني للكتابة عنه أني حلمت به البارحة. كان في الحلم يبحث عني. يعرف المدينة التي أعيش بها، لكنه يجهل عنوان الشارع والبيت. اهتدى لطريقة أن يجوب المدينة وهو يغني لعلّي أسمعه. وفعلاً سمعته وخرجت لاستقباله. حالة قريبة جداً من تلك التي تعرفت بها عليه في الوطن الافتراضي.
لم نكن قد سمعنا باسمه أو تعرفنا على صوته من قبل. دخل علينا في إحدى الغرف وقدم نفسه على انه يود أن يكون صديقاً للعراقيين في كل غرفهم. كان بجنبه يجلس عازف عود. قال جئت لأسعدكم بالغناء فغنى. لا يمكن لمن يسمع صوته إلا أن يقسم بأنه سعدي الحلي. يا له من صوت حنون وعذب. أحببناه من أول لقاء. لم يمكث بيننا طويلاً لكون وراؤه مهمة أن يجول في كل الغرف ليسعد الناس.
صادف مع دخول علي داده العالم الجديد أن صارت الغرف تتعرض لهجمات منظمة من البعثيين. يدخلون الغرف ليرشقوا "الجالسين" فيها بكلمات بذيئة لم يسمعوا بمثلها في كل قواميس السفالة. تطور الأمر فصاروا يفلشون الغرف بطريقة "الهاكنج". نسى علي داده الغناء وتفرغ للدفاع عن "الوطن". أكتب له على "البرايفت" أني أريد أن استمع لغنائه، فيرد علي معتذراً بأنه لازم خفارة لحراسة الغرف من الأعداء!
بعد سقوط صدام غادر أغلب العراقيين "البالتوك". فيهم من صار حواسمياً أو وزيراً أو نائباً. وفيهم من تحول إلى مليونير بقدرة قادر.
انتهى الحلم فجأة قبل أن أسأل علي داده أين صفى به الدهر. خوفي أن لا يكون قد ترك الغناء والخفارات وخشّ في دهاليز السياسة والسلطة والحكم. لا أظنه يفعل لأنه من طينة غير طينتهم، ليته يخبرني كي يطمئن قلبي، لا أكثر.
جميع التعليقات 1
عامرعمار
أغلب الظن أن (علي داده) ما زال يغني ولكن لا أحد يسمعه لأن الجميع وصل الى غايته وهو لم يفعل..مازال الوطن أسيرا محتلا من الطائفيين والحواسم والفاسدين والأرهابيين القتلة..وهو بالتأكيد مالم يكن (علي داده) والكثيرين غيره يتوقعون أن يصحوا عليه فعادوا الى أحلام