لا يوجد في العراق من أدلى بتصريحات نارية ضد الطائفية أكثر من رئيس الوزراء. وبدرجة أو اخرى يفعل جميع الساسة والمواطنين ذلك. وهذا شيء جيد، لأنه يدل على ان الطائفية لاتزال مرفوضة في البلد، نظريا على الأقل. والطائفية السياسية "الصريحة" ظاهرة جديدة على مسرح السياسة العراقية، فهي لم تظهر الى العلن الا بعد الغزو الأميركي للعراق.
وتتمثل أهم صور "الطائفية السياسية الصريحة" بوجود أحزاب شيعية حصرا أو أحزاب سنية قصرا. صحيح ان عمر بعض هذه الأحزاب جاوز النصف قرن، شأن الحزب الاسلامي وحزب الدعوة، ولكنها طوال تلك الفترة لم تحتل مكانة واسعة لدى الرأي العام العراقي، ولا كانت قريبة من السلطة في يوم من الأيام، شأن أحزاب وحركات الشيوعية والبعث والضباط الأحرار التي هيمنت على الشارع أو السلطة منذ ولادة العراق الجمهوري حتى الغزو الأميركي.
أما في الواقع فقد كانت الطائفية السياسية "الضمنية" أو "المستترة" شغالة، بطريقة أو أخرى، في السياسة العراقية. فالأفكار السياسية الحديثة نفسها قد تكون، في بعض وجوهها، أنواعا من أقنعة كثيفة لتغطية تلك الطائفية. كما أن السلطة كانت من نصيب السنة على مدى تاريخ العراق الحديث. ومشهورة هي تلك الكلمة التي نحتت في عهد العارفَين، تعبيرا عن هوية السلطة، وهي كلمة (عفترة) التي تجمع الحروف الأولى من البلدات السنية الخمس الحاكمة:عانة، فلوجة، تكريت، راوة، هيت.
إن الازدواج بين الظاهر والباطن، الحديث والتقليدي، كان قائما. وكان لكل منهما قوته. ففي سبيل أفكار حديثة كالوطنية والقومية والشيوعية كان مناضلون كثر يغامرون ويقدمون التضحيات التي تبلغ حدود الشهادة أحيانا. وهي أفكار انحسرت، ولكنها لم تمت، ولازالت هذه الفكرة أو تلك منها مؤثرة، والى درجة تستدعي معها كل هذا الخجل الظاهر اليوم من الطائفية، حتى من قبل الطائفيين أنفسهم.
إن مضمون الطائفية السياسية الأهم هو الإيمان بوجوب أن يكون الحاكم من طائفة معينة، وإن الحكم يجب أن لا يخرج منها الى غيرها من الطوائف والعرقيات. والحاكم والحكم في عراق اليوم يعني منصب رئاسة مجلس الوزراء الذي جعله الدستور المنصب التنفيذي الأول. وكان الصراع على هذا المنصب من بين مظاهر خروج الطائفية بعد 2003، وعبر ثلاثة انتخابات عامة، من طور الباطنية الى طور الصراحة لأول مرة في تاريخ العراق الحديث.
وكان من بين أخطر نتائج هذه الطائفية السياسية خضوع السياسة العراقية للنفوذ الاقليمي. فقد أصبح تحالف الشيعة مصلحة ايرانية عليا. كما أصبح تحالف السنة مصلحة خليجية وتركية ضد التمدد الايراني. بينما أصبحت استرتيجية الكرد هي "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي" لتنمية مصالح الاقليم بعيدا عن مخاطر الصراع الطائفي المحلي والاقليمي.
وامتدت نتيجة الانقسام السياسي الى المجتمع، فأصبح الشيعة حساسين من التدخل الاقليمي السني في العراق، مع رضا أو أقله انعدام احساس تجاه النفوذ الايراني. في المقابل هناك حساسية أشد لدى السنة تجاه النفوذ الايراني. وهكذا أصبح عرب العراق، بشيعتهم وسنتهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، "طابورين خامسين"، كما وصف جورج نقاش يوما شعب لبنان الذي كان منقسما مطلع القرن العشرين بين مسلمين يريدون ان يكونوا جزءً من العرب، ونصارى يريدون أن يكونوا جزءً من الغرب.
مع ذلك فإن الجميع نازل شتم وادانة للطائفية. وهذا جيد. فلشدة ما يكذبون وهم يدعون اللاطائفية لعلهم يصدقون ويبرأون فعلا من الطائفية.