TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الانتخابات بين العصبيات والحداثة

الانتخابات بين العصبيات والحداثة

نشر في: 16 مارس, 2013: 09:01 م

مسار الديمقراطية في عراق اليوم  وبعد  سنوات عشر من التغيير السياسي و تجارب انتخابية عدة، سواء المحليات منها أو البرلمانية ، يجعلنا في حالة ارتياب  من استمرار  تحولات المسار الديمقراطي  إلى الاتجاه المعاكس  كفعل سياسي ، و

مسار الديمقراطية في عراق اليوم  وبعد  سنوات عشر من التغيير السياسي و تجارب انتخابية عدة، سواء المحليات منها أو البرلمانية ، يجعلنا في حالة ارتياب  من استمرار  تحولات المسار الديمقراطي  إلى الاتجاه المعاكس  كفعل سياسي ، وأقصد توجهها إلى الفعل  والفاعل الاجتماعي ، مما يجعلنا نتساءل: ماهو سبب انفتاح السوق الانتخابي وكثرة عدد المرشحين فيه ؟  وما هي رهانات المنافسة  داخل هذه السوق ؟  والأهم من ذلك، هل  رهانات المنافسة  اجتماعية وغير سياسية فعلا؟
المطروح للمنافسة عملة اجتماعية ليست صعبة ، ولكنها فاعلة داخل المجتمع ، ومؤثرة استنادا إلى علاقات أولية من حيث المكانة والنفوذ والمال  ، لأنها تمثل أبنية القوة الأولية التقليدية في المجتمع المتزاوجة مع الأحزاب (السياسية – الاجتماعية )والنظام السياسي  . وقد   عملت  هذه القوى على  تشكيل بوتقات لإنتاج المرشحين وطرحهم في السوق الانتخابي كسلعة تمثل الثقافة السياسية السائدة في المجتمع العراقي .
إن خارطة القوى الانتخابية التقليدية تؤكد  لنا أنها تسهم  بشكل فاعل في إعاقة التنمية الديمقراطية و إعاقة تنمية المرشحين ذوي الرؤى الأشمل للاحتياجات ومطالب الناخبين ، و بذلك يمكن أن نحدد  الفاعلين في العملية الانتخابية   باثنين هما : المرشحون (السلع)، و الناخبون الكبار غير الرسميين ( العشائر والطوائف والقوميات) من خلال هيمنتهم على شبكات التصويت وقبلها شبكات التعبئة الانتخابية الانتقائية. وبذلك يصبح المرشح ( السلعة) والناخب ( المشتري ) داخل  دائرة أو إطار واحد للقوة التقليدية، و يمارس  الناخب الرهانات  غير السياسية حول الرموز والولاءات التقليدية من ناحية ، ومن ناحية أخرى حول المصالح والوساطات ، وهنا تصبح سطوة الولاء التقليدي  وآلية الوساطات والخدمات والمصالح أقوى من الانتماء الحزبي والسياسي ، وأقوى من الهوية الوطنية ، لذلك عملت ائتلافات الأحزاب على المزاوجة بين عناصر القوة التقليدية والدور المؤثر لأجهزة الدولة كقوة ثانية  على التأثير في البيئة الانتخابية من خلال عرض المرشحين بصور  إلى جانب رؤساء القوى  السياسية مع عرض الأسماء مسبوقة  بألقاب اجتماعية ( سيد و علوية أو شيخ ) ويستتبع الاسم  لقب العائلة الذي يمثل العشيرة  التي ينتمي إليها المرشح ، بمعنى أن السلع تنوعت بانتماءاتها الأولية فقط وأغطيتها الحزبية الاجتماعية  ( السياسية) ،فيصبح  الأفضل في هذا السوق من يعرض انتماءين فأكثر . وتبقى البرامج المعروضة محض شعارات لا تأثير لها أو أنّ  لها تأثيراً محدوداً .يبرز  بين الناخب التقليدي والمرشح التقليدي   وسيط يلعب دورا في حشد الناخبين وتنظيم الحملات  الانتخابية والإعلامية والاتصال مع ذوي العزة والمكانة داخل الأنساق القرابية والعصبيات المحلية  ، ويعتبر هؤلاء  إسنادهم لمرشح منهم تعبيراً عن مصالحهم ورمزاً لقوتهم وحضورهم المناطقي ، كما يمثل قدرتهم على تقديم خدمات ومصالح شخصية وما ييسر التعامل اليومي  لهم ،  وذلك من خلال لعب دور الوسيط مع أجهزة الدولة  .  وبذلك حولت  الثقافة السياسية السائدة   النظام الانتخابي وآلياته إلى طابع لا تنافسي بين الاتجاهات السياسية بل حولت السوق الانتخابي إلى عرض وطلب على نفس السلعة الثقافية والاجتماعية  مع الحفاظ على نقطة التعادل الاقتصادي التي تعني تعادل العرض مع الطلب فيؤدي إلى استقرار السوق التقليدي مما يؤشر أننا لسنا على أبواب سوق للحداثة  الانتخابية أو التغيير  السياسي  ، مع استمرار  كثير من الظواهر السلبية  المرتبطة بذلك، ولعل أبرزها  التصويت الجماعي  الذي يمارسه ذوو النفوذ أو المجموعات الأولية أو ما يطلق عليهم العصبيات المحلية من أبناء العشائر أو العائلات الممتدة بالقيام بذات الممارسة كجزء من مسؤولياتهم الاجتماعية .
   المعروف أن المدينة بصورة عامة  فضاء للسياسة والحداثة ، غير أن الملفت للنظر أن المدينة العراقية  قد أدارت ظهرها  للحداثة السياسية والمؤسساتية المرتبطة بتأسيس الدولة العراقية وأعادت بناءها وأنتجت قوى وقيماً لم تعرفها سابقا ،فبدت عروض المرشحات (الكوتا ) غريبة على العين العراقية ،حيث لا تعرض صورة المرشحة أو هي تعرف باسم زوجها المتوفى بعد التعريف بأصوله الاجتماعية ، كتعبير رمزي عن عقيدة  وقيمة اجتماعية لا تسمح للمرأة بكشف شخصيتها إلا من خلال ارتباطها  برجل ( أب ، أخ ، زوج ، ابن )، مما يكشف عن فجوة حقيقية بين المرشح كاسم فقط ( سلعة)  والجمهور الناخب  ( المشتري أسير الثقافة التقليدية ) وآليات المشاركة ، مما يحتاج هذا الموضوع إلى دراسة معمقة عن الفكر السياسي الجديد  البعيد عن فضاءات المنافسات السياسية ، وهكذا تشكل اللامبالاة  والعزوف عن الرفض  للمرشح لغرابة مصدره وضعف  شرعيته  دلالة على اللامبالاة بالسياسة والنظام والصفوة ، وهذه مسألة بالغة الأهمية في دراسة أزمات النظام السياسي العراقي ومستقبل الانتخابات في العراق .
 إن تآكل مظاهر الحداثة السياسية والدولة الحديثة ، وتغيير الديمقراطية لمسارها وتغيير وظيفتها ، أدى إلى هيمنة البنى والقوى التقليدية والجماعات الأولية في الانتخابات العراقية ، وهذا دليل وهن في الروابط السياسية لصالح العشائر والأساطير الاندماجية ومواريثها وتعاضداتها وتضامناتها  ، مما يوصلنا لاستنتاج  واضح هو أن الدولة والأحزاب السياسية ساهما بدور فاعل في دعم أبنية القوة هذه ورموزها والتعامل معهم كوسطاء بين مجموعاتهم الأولية وبين النظام وأجهزته لضمان استمرار الأخير في اللعبة السياسية وممارسة طقوسها و مناوراتها مما يعكس طبيعة التركيب الاجتماعي والثقافي للنظام ودلالات علاقاته بتلك الهياكل التقليدية.
ثمة إدراك سياسي سلبي لدى غالبية العراقيين،  يتمثل في أن  طبيعة الانتخابات وآلياتها  الحالية لا فائدة من ورائها في إحداث التغيير لواقع المجتمع ، ولا يغير الأوضاع القائمة ولا يؤثر عليها ، ولا يحدث تغييرا في الإصلاح المطلوب.  لذلك ، فإن فجوة الصدقية والثقة تتسع وتتعمق بين العراقيين ونظامهم السياسي وأن هناك فجوة ثقة كبيرة  في العملية الانتخابية نفسها.
   إن هذه الانتخابات والإرث السلبي لتاريخ الانتخابات في العراق،  يفرضان علينا أن نعترف أننا أخذنا من الديمقراطية الشكل دون المضمون الحقيقي ، وأن علينا أن نعترف أن النظام السياسي  إذا استمر بهذه الثقافة الانتخابية  السياسية الحالية لن يصمد طويلا في الداخل ،كما لا يصلح لمواجهة العالم الحديث، وأن عدم نجاحنا في إقامة انتخابات سياسية حقيقية، يعني فشلنا في امتحان الحداثة  وبناء دولة صالحة  على أسسها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. الكاتب احمد محمد احمد

    رأي علمي دقيق بعيد عن الأدلجة: عدم نجاحنا في إقامة انتخابات سياسية حقيقية، يعني فشلنا في امتحان الحداثة وبناء دولة صالحة على أسسها.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: صنع في العراق

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

التكامل الاقتصادي الإقليمي كبنية مستدامة للواردات غير النفطية

ثامر الهيمص المرض الهولندي تزامنت شدته علينا بالإضافة لاحادية اقتصاديا كدولة ريعية من خلال تصدير النفط الخام مع ملف المياه وعدم الاستقرار الإقليمي. حيث الاخير عامل حاسم في شل عملية الاستثمار إجمالا حتى الاستثمار...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram