TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مع الدكتور مكية

مع الدكتور مكية

نشر في: 24 مارس, 2013: 09:01 م

    تحت تأثير طقس عذب زرت الدكتور محمد مكية، شيخ المعماريين العراقيين، في بيته. كان كنعان مكية حاضراً، وهو ابنه البكر، في زيارة من أمريكا حيث يقيم ويدرّس. وكما عهدته في لقاءات سابقة باشر معي الحوار الجدي منذ لحظة وصولي:"ما كان لشوارع بغداد أن تُمد في موازاة نهر دجلة، وكأنها تُعطي ظهورها لأحد أنهار الفردوس. الأصح أن تتجه إليه. ما كان للبيت البغدادي أن يُغلق وكأنه ضريح، الأصح أن يظل مشرعاً من "الحوش" على الأفق. ما كان للمدن أن تُستعبد من قبل هيمنة السيارة، التي صنعت لخدمة الإنسان. الزمان والمكان والإنسان عناصر جوهرية في العمارة. المبنى يجب أن يتناغم مع الأرض. والطابوق يجب أن يتناغم مع بناته...". يتحدث مراوحاً بين اللغتين العربية والانكليزية.

لم يستطع أن يقف في استقبالي على عادته في استقبال أحد. فقدماه لا يقويان: "بلغتُ التاسعة والتسعين." قال مبتسماً. فحدثته عن الجذوة المتميزة لكل عقد في عمر الإنسان. من بلغ التسعينات ينفرد بجذوة بالغة الندرة، عميقة اللذاذة. فطوبى له. كنعان كان يجدني واقعياً، في حواري، عن بغداد والعراق عموماً، ويجد أباه حالماً. قلت كم ستكون واقعيتي خطرة بدون حلميته. لأن محمد مكية يتطلع لمشروع إعادة البناء للمدينة البائسة وكأنه واقف أمام مخطط هندسي على طاولة عمل. وأنا أقول إن المرحلة التي قد تمتد عقوداً لن توفر ساسة لهم أدنى دراية بأي شأن من شؤون الإنسان، خارج محور سحر "السلطة"، "الثروة" والخوف من العدو المنافس.

    ثم حدثته عن الوقت الممتع الذي صرفته مع كتاب عنه، صدر هذه الأيام ضمن نشاطات "بغداد عاصمة الثقافة لهذا العام"، كتبه معماري من جيل تالٍ هو الدكتور علي ثويني. وكم كان الكتاب، على ضخامة حجمه، ممتعاً لا بفعل غزارة المادة فيه عن المعماري الكبير فقط، بل بفعل الطبيعة الرحبة للكتاب، التي تتسع للفكر الفلسفي والأدبي وفكر الحضارات القديمة، العراقية بصورة خاصة، ولتحديد الفارق بين العمارة العراقية، العربية، والشرقية وبين العمارة الغربية. إلى جانب العنصر السياحي الطليق في التناول. فعلي ثويني يتنقل على هواه على طريقة "الأمالي" في التأليف العربي في موروثنا الثقافي الأدبي. لأنه يعتقد أن هذا الأسلوب في التأليف ميل عراقي خالص. والمؤلف لا يُخفي حماسه العراقي الحار. فهو يؤمن أن العراق مغموط الحق من قبل إهمال عربي وغربي، مقصود أو غير مقصود. وحرارة حماسه ترتفع إلى أفق يكاد يكون على تماس مع أفق الإيمان العقائدي. والعقيدة، كما أحذر دائما، تتعارض مع العلم، ومع مسعى الكشف عن الحقيقة. على أن حماس الدكتور ثويني جوهري في عنصر الإمتاع في الكتاب.

    عنوان الكتاب "المعماري محمد صالح مكية، تحليل للسيرة والفكر والمنجز" (وزارة الثقافة، بغداد 2013 في 443صفحة). ويتوزع على خمسة فصول، كل فصل ينطوي بدوره على أربعة أقسام."مكية الإنسان" ينصرف إلى المنشأ (ولد عام 1914) والمؤثرات في حياته المبكرة. فهو ينتسب لعائلة من الفرات الأوسط، سكنت في حي شعبي بقلب بغداد. شغف بالكتاب والعمارة منذ شبابه الأول. حصل على الدكتوراه من بريطانيا (1946) وعاد إلى العراق. ولكن الاستجابة لم تكن على قدر نشاطه وطموحه، فهجر العراق على مراحل بدأت في 1968، حتى استقر في انكلترا عام 1972 بصورة نهائية. الفصول الأخرى تحيط بفكره، ومنجزه، وإسهامه في تأسيس جمعية الفنانين العراقيين، وكلية العمارة وجامعة الكوفة، ثم ديوان الكوفة في لندن.

الكتاب كما أشرت موسوعي، فأنت تقرأ فيه الكثير عن تاريخ العراق الحديث، والكثير عن الحضارات القديمة، والكثير عن الفكر، والفن، والكثير الكثير عن العمارة. ويعبر فيك الكلام عبر حشد من الصور لشخصيات، ومبانٍ، ومشاهد، وتصاميم معمارية. على أن الكتاب كان يستحق عناية أكثر في المراجعة الطباعية واللغوية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

التكامل الاقتصادي الإقليمي كبنية مستدامة للواردات غير النفطية

ثامر الهيمص المرض الهولندي تزامنت شدته علينا بالإضافة لاحادية اقتصاديا كدولة ريعية من خلال تصدير النفط الخام مع ملف المياه وعدم الاستقرار الإقليمي. حيث الاخير عامل حاسم في شل عملية الاستثمار إجمالا حتى الاستثمار...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram