عندما يفقد أحدنا عزيزاً عليه، يحضر الموت داخل وعيه بشكل غريب، يشاهد بأم عينيه، جلال الموت وهيبته، يمشيان جنباً إلى جنب مع عبثه وجنونه. نعم.. فالموت جليل، لكن يخالط جلاله كثير من العبث. والموت مهيب، لكن تشوه هيبته جنونيات لا يمكن القبول بها.
لقد رافقت والدي في رحلة مرضه الطويلة، مرافقة صديق لصديقه، ورفيق درب لرفيقه، وأحسست خلال هذه الرفقة بجميع آلامه، وكثيراً ما طالبتني روحه السماح لها بالرحيل، وقد وافقتها، بعض المرات، على حقيقة أن الرحيل قد آن أوانه. ربما لأن عمره الجسدي قد جاوز التسعين، وربما لأن حياته لم تعد تليق به، أقصد أنها لم تعد تستطيع تحمل تكاليف كبريائه الباهظة. وكان لكبريائه تكاليف لا تسمح ظروف المرض بسدادها.. وعندما تمدد على فراش الموت وأخذت حياته تشتبك مع موته بصراع مرير ومؤلم، مسحت على رأسه بيدي وأخبرته بأنني مستعد لتحمل ألم رحيله، وأن بإمكانه أن يُسَيّر قوافله طيب الخاطر.
حدث ذلك بعد أن أيقنت بأنني لن أحزن لفراقه أبداً؛ لذلك فتحت الأبواب أمام رحيله بهدوء لم أجربه سابقاً، وبقي هذا الهدوء يلازمني لحظة توقف أنفاسه وسماعي لآخر صهيل من حصانه الجامح. ثم إلى اللحظة التي أدخلناه بها إلى التابوت وهممنا برفعه.
لكن ما الذي حدث لحظة جلوسي عند جهة الرأس من نعشه استعداداَ لحمله؟ هل تكسَّرت مراياي؟ هل انهارت هياكلي؟ هل ترنَّحت آخر منارة في أقصى زوايا إيماني عمقاً؟ هل تساقطت ثمار روحي يابسة وخالية من كل روح؟ لا أعرفُ في الحقيقة، لكنني لم أستطع النهوض من تلك الجلسة.. فهل بكيت؟! لا أعتقد أن البكاء هو الذي منعني من النهوض، بل ثورة مرعبة، جموع هائلة من الموتى احتشدوا داخل بكائي ونددوا بالموت بشكل مريع وهائج، شتموه حتى قبل أن يتمكن من لملمة حرابه، رموه بالحجارة، بصقوا بوجهه، وحتى أنهم حاولوا تمزيق أرديته السوداء. لكنه، وبخفة ثعلب، راوغ ثورتي ومسح دموعي، مبتسماً ابتسامةً ذكرتني بكل الوعود التي قطعها لي، بالكتابات الكثيرة التي كتبتها عن حكمته وهو ينقذنا من مآزقنا المؤلمة. عند ذلك الحد، لملمت صوابي وحملت نعش أبي وأنا أردد بيني وبين هزيمتي:
أيها الصمت، وكل هذيان يسبقك باطل...
أيها العدم، وكل الوجود من حولك عبث...
أيها الموت؛ تذكر دائماً، أن معركتنا مع الخيبة لا يحسمها إلا غدرك.
الأسودُ المهيبُ الصامت
[post-views]
نشر في: 24 مارس, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 2
حارث
رحمه الله برحمته الواسعة و أسكنه فسيح جناته
سمير العبدي
أعزي الأعلامي المبدع برحيل والده الى جوار ربه ندعوا الله عز وجل ان يرحم برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويلهم الأخ الأستاذ سعدون والأسرة الكريمة الصبر والسلوان . وأنا اقرأ كلمة الأستاذ سعدون وهو يعيش اللحظات وداع المرحوم والدة بفيض من المشاعر وبأسلوب زاخ