" شكرا لزيارتكم ... إذا شعرتهم بالرضا عن خدماتنا فاخبروا الآخرين ، وإذا لم تشعروا بالرضا فاخبرونا " ، عبارة جميلة ، شاهدتها مكتوبة على لوحة معلقة خلف طاولة الاستقبال بإحدى محال تأجير السيارات ، فاسترعت انتباهي ودفعتني الى التساؤل : ما هو الشعور بالرضا ، وكيف يمكننا أن نقيسه ، وأي نوع من الرضا هذا الذي نبحث عنه ؟
ربما كان الرضا الذي تعنيه اللوحة المعلقة بمحطة خدمة السيارات أكثر أنواع الرضا وضوحا ، لأنه يعني جودة الخدمة وسرعتها ، والمعاملة التي يلقاها الزبون من مقابل الخدمة ، ولكن : هل هناك أنواع أخرى من الرضا اقل وضوحا وأكثر تعقيدا ، علينا أن نبحث عنها ؟
ربما علينا ان نتفق أولا على تعريف للرضا قبل ان نجيب عن السؤال ، فالرضا في اللغة ضد السخط ، وهو في العقيدة مرتبط برضا الخالق عن المخلوق ، وهو في علم النفس سبب رئيسي من أسباب الإحساس بالسعادة والثقة والتفاعل الايجابي مع الحياة .وما دامت السعادة مرتبطة بالرضا فمن الأسئلة المهمة التي تطرح دائما: هل السعادة في امتلاك ما يرضي الإنسان ، ام انها في رضا الإنسان بما يملك ؟
تلك قضية أخرى ذات علاقة وثيقة بالقناعة التي طالما اعتبرها حكماؤنا الأولون كنزا لا يفنى ، والحديث عن الكنوز يجرنا بالتبعية الى الحديث عن علاقة الرضا بالمال ، فالمال في نظر الكثيرين عنصر رئيسي ومهم من عناصر السعادة المرتبطة بالرضا . هنا نتوقف لنفك هذا التداخل بين الحلقات الذي ربما يقودنا الى طرق وعرة ، حيث يرتبط المادي بالمعنوي في عملية معقدة شغلت الناس على اختلاف مشاربهم عصورا طويلة حتى كادوا يفقدون الأمل في الوصول الى اتفاق عليها .
في دراسة أجرتها جامعة " سان فرانسيسكو " بالولايات المتحدة، قام باحثون باختبار تأثير شراء أوقات جميلة ، مثل تناول عشاء في مطعم راق او حضور مسرحية او عرض أوبرا ، وقاموا بمقارنة ذلك مع شراء أشياء عينية جميلة كسيارة فأخرى مثلا ، او فيلا ريفية ساحرة ، او حلي مرصعة بالأحجار الثمينة ، وقد توصلوا الى ان سعادة الإنسان ومن حوله ، تتحقق بشكل اكبر عند استخدام المال في شراء خبرات وذكريات حياتية جميلة أكثر منها عند استخدام المال في شراء أشياء عينية ثمينة وامتلاكها . وقد علل الدكتور " رايان هاويل " احد الباحثين المشاركين في الدراسة ذلك باننا كبشر لا نمل من تكرار تذكر ما حصل لنا من الذكريات السعيدة ، في حين اننا نمل تذكر الأشياء المادية العينية التي حصلنا عليها ، وهو تعليل منطقي ، يؤيده اننا ندرك بالتجربة ان هذه الأشياء سرعان ما تصبح عادية لدينا بعد ان نحصل عليها ، عكس ما كانت عليه قبل اقتنائنا لها ، لذلك نبدأ في البحث عن أشياء أخرى كي نشعر بما نتصور انه الرضا .
" لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع " ، مقولة أخرى من المقولات المرتبطة بالرضا ، تبنى عليها الكثير من أحداث الحياة التي نعيشها او نشارك الآخرين تفاصيلها ، بعض هذه الأحداث تراجيدي الى درجة المأساوية ، وبعضها رومانسي الى درجة الخيال الجامح الذي برع فيه الكتاب والشعراء ، وكان فضاؤهم الذي ينهلون منه إبداعاتهم ، لكننا إذا اخضعنا الوجهين لمنطق الأشياء وجدناهما لا يخرجان عن دائرة الرضا ونقيضه .
ثمة أسئلة كثيرة يطرحها موضوع الرضا ، تقودنا في النهاية الى السؤال الذي طالما طرحناه على أنفسنا : ترى ، لو عاد بنا الزمن الى الوراء ، هل كنا سنختار الحياة نفسها التي عشناها ام كنا سنعيد تخطيط أحداثها على نحو مغاير لما عشناه في حياتنا الأولى كي نحقق الرضا الذي نبحث عنه ، والاهم من ذلك ، هل كنا سنبقى على حياتنا المعدلة لو أتيحت لنا الفرصة مرة أخرى لإدخال لمسات جديدة عليها ؟