حين نتحدث عن الفن تقتصر مخيلتنا عليه يبدأ من الحضارات القديمة، السومرية والفرعونية وما تلاها. ولكن أن يكون للعصر الجليدي، الذي يبتعد عنا أربعين ألف عام، فنٌّ قائم بذاته فأمر يستعصي على الإدراك والمخيلة معاً. نعم، عرفنا رسوماً اكتشفت في كهوف الإنسان البدائي، ولكن ظلت معلقة بأطراف المخيلة. ولم يرها الناسُ جميعاً في مُتحف أو عرض.
المتحف البريطاني ذهب إلى حاضرة العصر الجليدي، إذا كان للعصر الجليدي حاضرة، ليقدم لنا معرضاً باسم "فن العصر الجليدي"، يحتوي على قرابة 150 عملاً من فن النحت، والرسم ولكن بالحفر على العاج أو الحجر. قطعة الفن هنا، المعمولة بأصابع يد بشرية، تصل إلى عيني عبر تراكم لحاءات زمنية غير محدودة، وغير مرئية. من هذا الفاصل الزمني غير المرئي بيني وبين العمل الفني، والذي يملي علينا سحرَ المخيلة وحرارةَ العاطفة، تنبعث الدهشة. لأن هذا الزمن يقارب في غموضه الزمن بمعناه المطلق، المجرد الذي لا تقبض عليه عقارب الساعة، ولا تتابع الأيام والسنين. الزمن الذي يحقق وجوده بمعزل عنا، والذي يسميه الفلاسفة العرب "الدهر".
أمر مُدهش حين تجد نفسك تحدق في وجه امرأة، ليس بعيداً في استطالته عن وجوه نساء الانطباعي الإيطالي "مودلياني"، أو في منحوتة قوام امرأة ليس ببعيد عن تكعيبية بيكاسو. ولقد حدث أن اطلع "بيكاسو" على منحوتة هذه المرأة فأسرته، حتى أنه احتفظ بنسختين لمحاكاتها نحتاً ورسماً. الرشاقة والإيجاز في التفاصيل أسرا "ماتيس" أيضاً فتابعهما بحرص في تخطيطه ولوحته. ولكن علينا أن لا ننسى أن فنان هذا العصر الجليدي لا يملك موروثاً فنياً ليحاكيه، بالطريقة التي نتخيل محاكاة فنان عصر النهضة، أو فنان المرحلة الرومانتيكية لمن سبقوه. إن فنان العصر الجليدي يحاكي الطبيعة بالتأكيد كما يحاكيها الفنان في كل زمان، ولكنه يستلهم مخيلته استلهاماً محضاً أيضاً، حين نراه يضع منحوتة لقوام رجل، ولكن برأس أسد. أو حين نراه يحاول أن يجسد الحركة "الزمنية" الطابع لنمر يعدو، أو طائر يحلق في الهواء، في قطعة العاج "المكانية" الطابع. إنه بكوري حقاً، ومصادر مخيلته التي بهذا المستوى تظل غامضة لدينا.
الأعمال الفنية في هذا المعرض تؤكد القناعة النقدية التي تقول بأن الفن لا يتطور عبر السنين كما يعتقد كثيرون، بل يتغير فقط. فجسد الأنثى العاري في النحت لم يتطور من مرحلة فنان العصر الجليدي هذه إلى مرحلة حداثة بيكاسو. لأنه، وهو أمامنا الآن بعد عشرات الآلاف من السنين، يبدو تماماً كمنحوتة بيكاسو التي وضعها قبل نصف قرن، حتى ليصعب عليك، لو أنك اطلعت عليه في أي مكان عارياً عن هامشه، أن تنسبه إلى عصر سحيق. فن النحت هذا إنما تعرض للتغير ولابتكار شكل مختلف فقط.
المنحوتات في معظمها معمولة من عاج الفيلة الضخمة المنقرضة (الماموث). وأحياناً من الحجر، أو من الطين المفخور. وهذه الوسائل وتقنيات العمل اللتان تنتجان عملاً فنياً غايته المتعة والجمال، لا الاستخدام النفعي، هو الذي يؤشر إلى أن تلك المراحل السحيقة التي تمتد من أربعمئة إلى مئة قرن من الزمان إنما تنتسب إلى مرحلة كان الإنسان فيها يدخل مرحلة يقظة الوعي والعقل الإنسانيين. حين اكتشف الإنسان الآلة أو النار إنما كان مدفوعاً بالحاجة إلى أداة غذاء وحماية ماديتين. ولكن أن يكون مدفوعاً بالحاجة الروحية والعقلية للجمال في هذه المرحلة المبكرة فأمر يثير الاعتزاز حقاً.
الثور الوحشي الذي يقبل عليك عدواً، وتموج شعره الذي يوحي بالحركة. قفزة الأسد باتجاه مؤخرة ضحيته. الأوزّ العاجي المحلق في الهواء مستدقاً مثل السهام. تعبير مدهش عن الحركة في العمل الفني. وإذا أردت موسيقى فهذا ناي بالغ الصغر من عظام النسر الرقيقة، إلى جانب الهيئات الصغيرة لحيوان الجاموس والثور الوحشي، لعلها دُمى للعب الأطفال.