من بين أسوأ الأخبار الخاصة، القادمة من بلاد الشام، وكلها سيئة، استيلاء عدد من ثوار الجيش الحر، على منزل صديقي نافذ أبو حسنا، وهو الذي كان بسبب الأحداث يؤوي أكثر من أربعين شخصاً من أقاربه، الذين فقد بعضهم بيوتهم، وفقد آخرون الأمان فيها، فالتجأوا إلى بيت ظنوه آمناً، وهم الذين اعتادوا كفلسطينيين فكرة اللجوء، صحيح أن مئات البيوت أخليت من سكانها لصالح " الثوار " لكن احتلال بيت لاجئ فلسطيني يحمل نكهة خاصة، ليس فيها غير الحقد، وفقدان أي وازع أخلاقي أو ديني أو وطني، والتوهان عن البوصلة المؤدية إلى الهدف.
نافذ الذي أختلف معه سياسياً، لكنني أحترمه كثيراً لمبدئيته، وتفانيه في سبيل قضية وطنه المغتصب، بنى بيته قريباً من المدينة التي يرقد فيها محرر القدس من الصليبيين، ليظل الأمل حاضراً، وقد ناضل كثيراً متنقلاً في عمله بين بيروت ودمشق، إعلامياً متمكناً يتمسك بمبادئه، حتى لو ضيّق عليه ذلك الحال، وطوبة بعد طوبة، وحجراً فوق حجر، شيّد بيتاً ظل دائماً يعتبره مؤقتاً، وهو المؤمن بأن بيته لابد أن يكون في فلسطين، وكان يشعر بالفخر حين آوى بيته هذا مجموعة من إخوانه وأقاربه، زاد عددهم على الأربعين شخصاً، وظل يقول هانحن نستفيد مرة من جهد بذلناه.
أهم ما احتواه بيت صديقي المثقف موسوعياً، مع تخصص بكل ما يتعلق بفلسطين، كانت المكتبة، التي أظن أنه دفع فيها ما يوازي ما دفعه في إعمار البيت، وهي بكل ما تحتمله معاني الأسى، كانت الهدف الأول لمحتلي البيت، حملوها فوراً، وليس معروفاً إلى أين انتقلت الكتب التي قضى نافذ عمره وهو يجمعها، لتشكل مخزونه المعرفي، ولتكون ذاكرته التي يستند إلى كل مفصل فيها، وهو يرى فيها تفاصيل فلسطينه، ويتعرف كيف تمت سرقتها، وكيف تم التنازل عنها، في أروقة المساومه السياسية، على موائد الحكام العرب.
أظن أن نافذ سيسامح من سرقوا مكتبته، لو تيقّن أنهم سيقرؤون حروف كتبها، وأنهم سيستفيدون من الأفكار الواردة فيها، أو لو أن واحداً منهم سيكتشف أن بين يديه كنزاً للمعرفة، لكنه حتّى اللحظة، يخشى أن تكون معروضة على بسطة في إحدى حواري الشام، تباع بأبخس الأثمان، لتوفر لبائعها ثمن سجائره، أو حتّى أن تكون النيران التهمتها، لتوفر شيئاً من الدفء لسارقها، أو تتحول عند من يقرؤها إلى سبب يبرر فيه احتلال البيت، لخلوها من الكتب الصفراء، المتعلقة بكيفية دخول الحمام بالرجل اليسرى، أو تتحدث عن عذاب القبر، والطول اللازم للحية الإنسان، لتتوافق مع سنن الشريعة، مع أن نافذ كما أعرف، رجل مؤمن يؤدي صلواته في مواعيدها، دون استعراض أو تبجح.
نافذ أبو حسنا، وأظن أن سارقي مكتبته يعرفون ذلك، ليس شيعياً ولا علوياً، وهو حتّى ليس سورياً، وليس طرفاً في النزاع المسلح بين الأسد ومعارضيه، وهو نموذج المثقف الفلسطيني الذي يكرس كل طاقته من أجل قضية شعبه، التي يتاجر بها الجميع، والذين انتهكوا خصوصية بيته، متجاهلين الآية القائلة " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها "، هؤلاء يسيئون أولاً لأنفسهم ولشعبهم ثانياً، وللقضية التي يزعمون الجهاد في سبيل نصرتها، والعزاء لنافذ أنه استطاع في رحلة عمره، قراءة كل كتاب في مكتبته، واحتفظ في عقله بالكثير مما ورد فيه.