د. نهى الدرويش فيما كان التارخ سابقا يسير باتجاه تلقائي وعفوي، تشكل قصص منجزات الانسان فيه المادة الاساسية، ويتدخل فيه العقل الانساني، فمرة يسرد ويروي، ومرة اخرى يحلل وينقد، وفي كل هذا وذاك كان العقل المؤرخ سواء كان راويا او محللا ناقدا يسقط على التاريخ ادراكا فرديا او شخصانيا تارة وتارة اخرى زمكانيا واخرى ايديولوجيا، ولاجل ذلك قامت حركات علمية تطالب بالتشدد بانتهاج الموضوعية في كتابة التاريخ اوسرده،
عن طريق احكام علمية منهج البحث التاريخي، وحركات اخرى تطالب بإعادة كتابة التاريخ لخفض الشك في رواية احداثه ومنطقية اسباب الحوادث تحت شعار التحقيق العلمي التاريخي وتضمن هذا كما هائلا من التحقيقات الجنائية في الحوادث التاريخية بالاستعانة بعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها، وتارة اخرى حركات تدعو لصناعة التاريخ حاضرا ومستقبلا، وذلك من خلال التخطيط المسبق ورسم خارطة الاحداث المستقبلية وتوجيهها بحسب الاهداف الموضوعة سلفا، واعتمادا على هذا انطلق التخطيط في الاقتصاد والسياسة الدولية راسما خارطة لطريق التاريخ نحو الهدف العام المستقبلي لذا فقد اصبح كل شيء قيد التخطيط المسبق، ومن هنا تبدأ حكاية "هندسة المستقبل".rnفي النصف الاول من القرن الماضي انطلق مؤتمر عالمي لعلوم المستقبل يعقد كل عشر سنوات ويشارك فيه نخبة من العلماء من كل الاختصاصات وكتاب قصة مبدعون ومخرجون سينمائيون واصحاب رؤوس اموال صناعية وتجارية احتكارية كبرى فضلا عن شخصيات علمية وفنية مبدعة اخرى، وواحدة من محاور هذا المؤتمر هو ان يقدم فيه المبدع والقاص (في مجال الخيال العلمي خاصة) افكارا مبدعة عن تقنية ما وكيفية تصورها وآلياتها وجدواها، ثم يقدم العلماء امكانية تنفيذها واقعيا خلال السنوات العشر القادمة فضلا عن كلفة ميزانيتها المالية، فيما يقدم اصحاب رؤوس الاموال عروضا لتحقيقها عمليا من خلال تقديم الدعم المالي لتحقيق هذه الفكرة الخيالية على ارض الواقع مقابل احتكارها، وهكذا يمكن انتاج الفكرة المبدعة على شكل فيلم من الخيال العلمي، اذ تتضافر جهود علمية وفنية وفلسفية من مختلف الاختصاصات لإنتاج قصة وسيناريو فيلم من هذا النوع، هكذا تكونت مجاميع يمكن وصف اهدافها باعادة انتاج الافكار بنسق تكاملي، اذ بسبب التوجه نحو التخصص الدقيق صار لزاما من اجل انتاج فكرة عامة ان تتضافر جهود من اختصاصات مختلفة لانتاج هذه الفكرة بشكلها العام والكبير والمتكامل نسبيا مع السعي المستمر لتطوير الفكرة من اجل منع قولبتها وجمودها التاريخي. هذه المجاميع هي التي استهدفت هندسة المستقبل ولاقت قبولا واستحسانا ودعما من قبل تيارات سياسية فلسفية ورأسمالية، فظهر ما يسمى بتيار هندسة المستقبل التي تلغي فكرة العفوية والتلقائية في سير الاحداث لكونها ستصبح تاريخية، وادخال فكرة القصدية من خلال التخطيط والسترجة لرسم خارطة المستقبل عن طريق تصنيع الاحداث للوصول الى حقبة تاريخية اجتماعية جديدة ترسم قوانينها التاريخية مسبقا ومن شأنها ان تحدث تغييرا جذريا في طرق ومبادئ تفكير وسلوك البشر وتنتج اقتصادا وسياسة وتنشئة وتعليماً على نحو مختلف كليا عما عرفه التاريخ لحد الآن. وما الرأسمالية والديموقراطية الا تكتيك مرحلي للوصول الى هذه الحقبة من التاريخ المستقبلي، وما فكرة العولمة الا وعاء لتحضيرها، وهذا ما يعنيه مصطلح النيتوقراطية فلسفيا اذ هي: المستقبل الرقمي للمعلومة واعادة توزيع مراكز القوة في الهرم الاقتصادي العالمي، اعتماداً على علوم الهندسة المعلوماتية وبرامج صناعة التاريخ (فقد دخلت الهندسة في كل شيء: هندسة التفكير، هندسة السلوك، الهندسة الوراثية، هندسة التعليم والتربية، الهندسة السياسية، هندسة الاديان، الهندسة الاجتماعية.... الخ) .فما هي المعلومة الرقمية؟rnلقد حدث التطور الدرامي للمعلومة عبر الاعتماد على الرياضيات وتحويل كل شيء الى معادلة رقمية سواء كان معادلة علمية او كيميائية او حتى نشيد اطفال، وبذلك صار مصطلح" المعلومة" يعبر عن منتج ما قابل للتسويق لمختلف مناحي الحياة، وصار الاقتصاد يعتمد على بيع المعلومة لذا اهتمت تكنلوجيا المعلومات بالتسلية والاعلام والسلعة الجديدة، وهكذا ضعف دور مؤسسات المجتمع الرأسمالي السياسية والاعلامية والتعليمية، وصارت حرية التجارة وانتقال رؤوس الاموال لا معنى لها مع تزايد التجارة الالكترونية الواقعة تحت سيطرة النخب المتحكمة بشبكات الاتصال والمعلومات (النيتوقراطيون). ولم يعد بيع المعلومة او حتى تحويلها لمورد دخل مالي امرا مجديا، فالنيتوقراطية تحقق نوعا من الاستثمار او الاستهلاك غير الاستغلالي، وفي هذا تجاوز لمبدأ الاقتصاد الرأسمالي ودخول الى مرحلة الميتارأسمالية، وهؤلاء النيتوقراط قد يقررون الاستفادة من معلومة خاصة لمصلحتهم ومصلحة شبكتهم او حتى متعتهم وفائدتهم الخاصة حصرياً، على ان يتم تبادل هذه المعلومة في اطار نخبة ضيقة من النيتوقراط وضمن شبكتهم الخاصة، وهذا ما سيدفع بالافراد الاذكياء الى محاولات شتى بدخول نطاق شبكات هذه النخبة. rn(في ضوء نظرية صراع الطبقات) ولكن هيهات، فهؤلاء النيتوقراط يحددون مسبقاً مشاركة الفرد الذي سيدخل نطاق شبكاتهم من خلال الاشتراك بها حصريا على من يوجد معلومة تستحق انتباها معيناً لقيمتها الكبرى في بناء الشبكات، ومدى بقائه في هذا الموقع
قراءة ميتانقدية لعصر النيتوقراطية
نشر في: 25 سبتمبر, 2009: 06:24 م