ينتقد بعضهم، ثلاثة أشياء في اربيل: الإجراءات الأمنية المتبعة على مداخل المدينة، استقدام الشركات الأجنبية للعمل على جميع المستويات، إصرارها على رفض خطط رجال الحكومة الاتحادية في العبث بالديمقراطية، فيما يصر آخرون على عدم الاعتراف بحجم التغيير الهائل الذي يلمسه كل من دخل أبواب هذه المدينة الجميلة، حيث قرر أهلها تعويض سنوات الحرمان والمعاناة، بأن بنوا لهم ولأبنائهم وأحفادهم مدينة تتسابق فيها الشركات والمستثمرون لتقديم كل ما هو مفيد للناس، والأهم أنهم اختاروا الصوت الخفيض وهم يعملون. الآن كلما نريد أن نضع جدولاً لمقاييس النمو والإعمار، سيظهر اسم أربيل حتماً في مراتب متقدمة، ذهبت الى أربيل قبل أسبوع لزيارة معرض المدى للكتاب، وأنا القادم من العاصمة التي ترمى فيها الأزبال في زوايا الطرق، وتبدو شوارعها مثل مدن تعيش في القرن الماضي، فلم أرَ في أربيل سوى النظافة والأمان والازدهار، أنا القادم من عاصمة تحتل المرتبة الأولى في مستويات الضجيج والإهمال والبؤس، أجد أمامي مدينة تسابق الزمن، وتحلم بأن تكون مثل دبي وسنغافورة، حيث لا وجود لسباق الشعارات والهتافات، السباق الوحيد المسموح به هو سباق الأبنية الحديثة، والمجمعات التجارية والبيوت المضاءة على مدار الساعة، وإشاعة البهجة في النفوس، أنا القادم من مدينة يتسابق مسؤولوها على ممارسة عملية نهب منظم للثروات ولأرواح الناس، أنا القادم من عاصمة يتباهى سكان منطقتها الخضراء بأن ميزانيتهم تجاوزت المئة مليار دولار، لكنهم عجزوا عن توفير أبسط الخدمات، لأجد نفسي في مدينة كانت كل شوارعها قبل عقود ترابية، تعرض اليوم على زائريها أحدث البنايات وتبدو من الطائرة كأنها حي من أحياء أوروبا، أحيط بحزام اخضر، لم تعد ثمة حاجة الى إلقاء الشعارات والخطب، لم تعد صحف أربيل تصدر مرة في الأسبوع أو تطبع خارج كردستان، قطعت أربيل المسافة من عصر الى عصر، في سفينة مذهبة اسمها الاستقرار والعمران، ولا يشبه الاستقرار سوى مصباح علاء الدين السحري الذي لا يسمح للفقر أن يبقى مقيماً في البيوت والشوارع، بعضهم يظن أن ازدهار المدن يأتي من المال فقط، والحقيقة آن الاستقرار يأتي من نفوس رجال يطمحون أن تظل مدنهم على خارطة البلدان الأكثر استقراراً وطمأنينة.
في أربيل لم يكن هناك وقت للخطابة، لم يكن هناك وقت لصناعة الكلام وذر الأكاذيب في العيون، المكان فقط لشيء واحد اسمه صناعة المستقبل، وحماية المكاسب التي تم تحقيقها، وخصوصا حماية دَور أربيل وموقعها التاريخي في العراق، بحيث لا تتحول الى فريق في نزاع ثنائي، وإنما طرف لتحقيق التوازن المنشود.
تتعلم أربيل الدرس جيدا، ففي زمن البناء لا مكان للمسؤول عالي الصوت الذي قال عنه كيسنجر يوماً إنه مصاب بشبق الأضواء ومريض بهاجس الخوف ، ويمضي حياته يصرخ في كل مكان، وهو كما اخبرنا مؤلف حفلة التيس "يوسا" يحاول أن يغطي على فشله بإثارة الضجيج ، لقد بدأت الشعوب تشفى حين تخلصت من سياسيي المايكرفونات، فهي اليوم تطالب برجال يريدون أن يجعلوا من مدنهم عواصم مضيئة من دون إطلاق رصاصة واحدة.
سيتهمني بعض القراء بأنني منحاز للكرد..وسأواجه بنفس التعليقات التي يكتبها بعضهم: لماذا أتجرأ دائماً على انتقاد الحكومة وائتلاف المالكي وبعض الساسة ولا أجرؤ على مجرد الحديث عن الكرد وكردستان.. وهو تساؤل يطالبني أصحابهم أن أوزع انتقاداتي بالتساوي.. إذن مطلوب مني أن انتقد طرفاً كردياً كلما وجهت سهام نقدي إلى أي تقصير تقوم به الحكومة.
ولسوء الحظ فإن مواقع إعلامية ممولة من أحزاب وسياسيين تعج كل يوم بحروب وشحن طائفي يمثل شرارة لحرائق يصرّ بعضهم على إشعالها، ولسوء الحظ نقرأ كل يوم لمسؤولين كبار يدعون إلى حرب ضروس ضد إخوة لنا في الوطن، و بعضهم الآخر يريد لنا أن نعيش أجواء كوميديا سياسية ساذجة تقوم على محاولة اختراع عدو وهمي وتصدير أوهام للناس البسطاء من أن العالم كله متورط في مؤامرة لإسقاط النموذج الثوري في العراق.
وأنا مثل بعضهم، أريد أن اطرح أسئلة أيضا، لماذا نستبدل الإعمار والرفاهية، بالخطب والثارات، وأتأمل تجربة أربيل وأتحاور مع أصدقاء في رحلة العودة الى بغداد، وفجأة يقطع حديثنا رجل آمن على مشارف العاصمة يسألنا: هل أنتم أكراد؟ أضحك، فأرى ملامح وجهه قد تغيرت ليأمر بصوت أجش "هوياتكم" ينظر اليها، يتفحصها، يقلبها ثم يسال ثانية "وين رايحين"، ابتسم ثانية، فهذه المشاهد افتقدتها لمدة أسبوع في أربيل، لم يسألني أحد عن هويتي، فالمدينة تستقبل الناس وتودعهم بلا ضجيج، قلت لرفيقي في رحلة العودة الروائي عبد الله صخي أهلا بك وأنت على مشارف بغداد، حيث ستعيش فصولاً مع سياسيين ومسؤولين، يستثمرون حناجرهم كل يوم في بورصة الشحن الطائفي والعنصري وفي شتم كل من يختلف معهم.
هل أنتم أكراد؟ !
[post-views]
نشر في: 7 إبريل, 2013: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 9
عبد الحليم نعمة
الى الاستاذ علي الرائع ان كل ماقلته اثلج قلبي واحرق قلبي بنفس الوقت . والسبب المقارنة بين بغداد واربيل . تمنياتي ان نلحق الركب ..
مواطن كوردي
هل فعلا افتقدت المشاهد التي ذكرتها في اربيل الم يوقفوك في جميع السيطرات ليسألوك اين كفيلك ايها العربي وعليك ان تأخذ اقامة لبضعة ايام فأنت اتيت الى بلاد اخرى لماذا لاتقول كل الحقيقة ان المسؤولين الاكراد قد اصابهم غرور زائف على مسؤليهم الرجوع الى الواقعية
سنان
السبب الوحيد لهذا الازدهار والتقدم ان قيادات الكرد تحب وطنها وشعبها ليس الا.
محمد طارق
على الرغم من المقال يبدوا موضوعيا من حيث ان شمال العراق اصبح متقدما كثيرا وربما يوضع في مصاف الدول العالم المتقدمة الا انه لا يتعدى ان يكون بوقا وتطبيلا الى حكام الاقليم على حساب حكومة العراق الاتحادية التي رفضت ان تبيع او ان تساوم على حقوق العرب في المنا
زامل اللامي
بارك الله فيك ياسيد علي حسين فانك لم تقل وقلت الا الحقيقة بوصفك للواقع المرير الذي يعيشه العراق والعراقيين في ظل حكومة السلطان الاوحد الفاشلة الذي دمر العراق والعراقيين واصبح الفشل والفساد هو شعاره ومقياس قائمته.فبارك الله فيك مرات ومرات ومرات مع كل حرف ح
زامل اللامي
الاخ مواطن كردي:انك تعلم ان الارهاب بقيادة الجارةايران القبيحة لاتريد استقرار العراق من شماله الى جنوبه لغرض تقويةسيطرتة على كل مفاصل الدولة من خلال عدم الاسقرار الامني لكن ايران لم تتمكن تحقيق ذلك مع الاكراد لانهم اذايقوموا بضبط الامن من خلال طلب الكفيل
احمد حسين
اخي العزيز رجاء خاص ان تكتب لنا موضوعا عن التمديد للسيد مسعود البرزاني في رئاسته للاقليم والمستمرة منذ 23 عاما، وهل هناك سجال سياسي حولها بين الاحزاب الكردية وماهو راي المواطن الكردي في ذلك، وغيرها من امور وما مدى تطابق ذلك مع الديمقراطية او التعددية السي
ضياء
التقى معك ولكن هذا لايعنى ان الاقليم لابخلو من مشاكل عديدة ولكن اذا ما قورن مابيننا فهم افظل منا فى العديد والكثير انهم عرفوا ويعرفون كيف العمل ولا شك ان العاقل سيقف مرحبا بانجازاتهم ومرحبا بما كتبته
Azzad
قد تكون كل ما ذكر في تعليقاتكم عن كوردستان( ليس شمال العراق) للعلم فقط, صحيحةو لكن السؤال هو كم عدد الاخوة العرب في كوردستان و لماذا لا تزدهر البصرة و بغداد و الموصل كمثيلتها اربيل؟