مشكلة سياسيينا أنهم مثاليون في رؤيتهم عن الواقع، وهذه المثالية إما حزبية أو دينية أو حزبية دينية. ومن هنا يأتي المأزق الذي يقعون فيه لحظة تسلمهم المسؤولية، إذ يكتشفون متأخرين أن إدارة شؤون الناس وتلبية حاجاتهم أمر مختلف تماماً عن شعارات الحزب أو رؤية الدين.
حدث في نهاية 2006 أن دخلت في مشادات كلامية ونقاشات حادّة مع أحد المتدينين، ممن كانوا يرفضون العملية السياسية، جملة وتفصيلاً، بحجة مخالفتها لضرورات الدين وسكَّة الشريعة، وكنت، دائماً، أقود النقاش بعيداً عن الدين باعتباره رؤية مثالية، وأحرج صديقي بمشاكل الناس، بالبطالة والفقر ومشاكل اليتم والترمل والسكن وكامل تركة الخراب التي خلَّفها صدام. كنت أقول له: إن أول ما يهتم به الرب هو: إشباع الجائع ثم تأمين مسكنه ثم تأمين وضعه الصحي ثم الأمني، ثم يقرر بعد ذلك أن يحاسبه على أخلاقه والتزاماته الدينية والاجتماعية. لا يُعقل أن ينظر الرب إلى المشرد الجائع نظرة قاض شديد القسوة بدلاً عن نظرة الأم شديدة الرحمة، الأم التي لا يقلقها شيء أكثر من إشباع حاجات فلذة كبدها؟!
ما حدث بعد ذلك مثير جداً بالنسبة لي، فقد صارت إحدى الوزارات "حصَّة" هذا الصديق بعد أن دخلت الجهة التي ينتمي إليها العملية السياسية، فرشح لها أحد مقربيه، الأمر الذي قلب الأدوار بيننا في النقاش، فأصبحت، بحكم عملي، اجلب له البيانات أو الوثائق التي تؤكد تقصيرات "وزيره" والشكوك التي تحوم حول فساده، بينما يطالبني هو بأن تكون انتقاداتي واقعية، وتأخذ بنظر الاعتبار ظروف البلد. أما مثالياته السابقة فقد نسيها تماماً وخجلت أنا من محاصرته بها.
المغزى أن الرؤية الواقعية تجعل المسؤول على دراية بحجم ما يواجهه من تحديات، من جهة، ومن جهة أهم، على دراية بحجم ما يستطيع معالجته هو من هذه التحديات. ما يجعل تركيزه موجهاً صوب أهداف بعينها، وهي الأهداف التي تقع ضمن قدراته وتنسجم مع تخصصه، فيعمل على تركيز جهوده وجهود مؤسسته عليها، ثم يترك للآخرين من ذوي الاختصاص معالجة القضايا التي تقع ضمن درايتهم ويمنحهم ما يحتاجون من صلاحيات.
لكن ما يحدث على أرض الواقع أن المسؤول يأتي محمَّلاً بصورة المنقذ الديني أو الزعيم التاريخي، الذي يعتقد بأنه مسؤول عن كل شيء، ومقدر له حل جميع المعضلات، ثم يدخل في التفاصيل بشكل تدريجي، وإلى أن يأتي الوقت الذي يعرف خلاله حجمه الحقيقي تكون الدورة الانتخابية على وشك الانتهاء، ويكتشف عندها بأنه محاصر بالآلاف من علامات الاستفهام التي لا جواب عليها. طبعاً أنا هنا لا أتحدث عن المسؤول الذي يأتي وعينه على الفساد ومنجله حاضر لحصاد المكاسب، فهذا المسؤول لا خلاف على قدرته في الوصول إلى كامل أهدافه.
جميع التعليقات 1
رمزي الحيدر
أعتقد أن المشكلة هو أستعدادهم في السقوط في بئر الرذيلة !