لكل ثقافة طعمها الخاص، وهو طعم لا يمكن لغير أهل هذه الثقافة أن يشعروا بكامل السحر الموجود فيه، لارتباط هذا السحر بالتراث وكامل تفاصيل الحياة، فعندما يسمع أحدنا أغنية تراثية لمجتمع ما، فقد يطرب لها، لكن لا كما يفعل ابن نفس المجتمع الذي تثير الأغنية في وعيه حكايات منسية أو مشاعر مكبوتة تجعل تذوقه مختلفاً لحد كبير.
قبل أيام ذهبنا لأداء زيارة "الأربعين" لقبر الوالد رحمه الله، وهناك حدث ما حفر بئراً عميقاً من الحزن داخل روحي وفجر مكمناً هائلاً من الألم لم أكن أتخيل وجوده هناك.. فعندما وصلنا القبر هرعت النسوة وارتمين عليه بمشهد جنائزي لا يمكن وصفه، ثم صنعن حلقة حوله وانبرت واحدة منهن وراحت تضبط إيقاع نواح بقية النسوة بصوت يقطر حزناً وبكلمات تستحضر تأريخاً هائلاً من الضيم.
وعلى الرغم من أن الحزن ابتلعني بشكل كامل، لدرجة لا تترك مجالا للتأمل، إلا أن الحس الانثروبولوجي الذي أربيه في داخلي، لم يتركني دون أن يشدني لعلاقة غريبة تربط بين المرأة والرجل في طقوس الجنائز العراقية، فأشعار النواح وصوت النائحة ترسم الرجل بصورة الحامي وليس الحبيب، في علاقة تُظهر المرأة وكأنها مادة معرضة للهتك الدائم، ما يجعلها بحاجة ماسَّة لبقاء البطل بجانبها، لذلك هي تنادي خلفه: «كون الوِلي ينباع بالسوك... شريته وضميته بصندوك... لأن الوِلي طلاع الحكوك».
تجد المرأة في هذه الثقافة الجنائزية، أشبه بحق سرعان ما يضيع بمجرد موت الرجل الحامي أو "الوِلي" كما تسميه النساء. وهناك دائماً ثمة رجل غريب يكون بلا أي شهامة ويترصد باللحظة التي تبقى فيها المرأة وحيدة ليضطهدها بدونية بشعة، ولذلك نجدها في حالة خوف دائم منه: «يتهدد علي ويكلي اجيتچ... دوار ما يحميچ بيتچ... اهلچ كضوا وآني وليتچ». وهي عندما تنادي فقيدها فإنها تفعل ذلك برجاء أن ينهض لحمايتها: «وديت اله بليلة شماله... خفك شاربه والغيض شاله... العاركچ لاهدم احواله».
أو هي تناديه لتسأله عن مصيرها، أو تعاتبه على المجهول الذي تركها له: «يا بوي ما تسمع نحبتي... وعلى شاربك سكطت دمعتي... شلون البصر بيه وبختي؟»
مع ذلك لا يخلو نواح ربات الحزن العراقيات، من ملامح حنو وشفقة تغمزان إلى مشاعر الحب ولا تصرحان بها: «كون الهوى ينباع صوغات... لاهديلك جبال محملات... ينسم على كبور المظلمات» أو «نكت صايته وهدمه الخفيف.. وسير على باب المضيف... كلمن يذكره ايكول يا حيف».
يبقى صوت النائحة العراقية يُحزن أي سامع له، لكن لأ أحد غير أبن الثقافة المتشرب بروحها المفجوعة، يقع على كامل الحزن المكنوز في هذا الصوت القادم من وراء تأريخ مؤلم وموغل بالقدم.
جميع التعليقات 2
أحمد هاشم الحسيني
أبكيتني والذي أخذ روح أبيك ويتمك ، تغمده الله في واسع مغفرته ورضوانه وأظل روحه في ظل رحمته وربط على قلبك بالصبر ولا أراك سوء ولا مكروها .
امراة
مع الاسف لوجود كتاب بهذه السذاجة ليومنا هذا ووصف المراة بهذا الضعف وان الحامي الوحيد لها هو الرجل رجاءا ايها الكاتب غير نظرتك عن النساء وانت تقول تريد ان تنمي الحس الانثروبولوجي بداخلك فليس مجموعة من النساء يمثلون ثقافة معينة من المجتمع العراقي تعممه على