إنها لغتي التي نشأت معي وتربّت على اللعبة الحافية والصحون الخالية.. لكنها ثروتي كلها.
تتمسك لغتي ببراءتها، غير البريئة، وهي تدخل النص وتخرج منه ثم تعود إلى نص آخر وتخرج منه إلى العدم.
لم تكن لغتي يوماً ابنة الاحتفال ولا جارة الوزارة ولا حليفة القتلة.
أنا أعرف لغتي على أنها ابنتي وأنا ابنها، كلانا نسير على درب غامض المسالك، كثير الاشتباك يظلله اللايقين وتستعمره الحيرة.
نشأت لغتي على وفق أبجدية محايدة صارت منحازة منذ الصف الأول الابتدائي عندما قدري قاد بقرنا ولم نكن سمعنا، من قبل، باسم قدري هذا الذي ينم عن ارستقراطية لغوية فجة لا تستقيم مع قيادة البقر، كما لم يكن لدينا أي بقرة.
البقر كنا نحن الذين قادونا الى المسالخ بمراسيم جمهورية مكتوبة بالإشارات والرغبات العليا للدولة ينفذها شرطي أمن مسلكي.
تستوفي اللغة شرطها من خطاب واعٍ، حتى في الفن، يوجّه رسالة مخصوصة إلى كثيرين أو لا أحد، مهما اختزنت من اللاوعي المتناثر في المكان.
لغتي لا تتبجح لكن ثمة قارئ متبجح شطب عبارتي وهي في لحظة ألمٍ عالٍ، وثمّة من يشطبون في أماكن ومناسبات وصحف عدة، ومن شتى الانتماءات والأحزاب.
كتبت، مرة، أرثي نصيراً شيوعياً قاتل في كردستان وقُتل فيها: "إن بندقيتك أيها الرفيق تصل الجبل بالسهل بالهور" فشطبها ذاك المسؤول - الذي تعرفونه - لأنه لم يستوعب بندقية على هذا الطول الطويل!
إنها لغتي، فما أفعل بها؟
اللغة تشبه صاحبها، وتمتد معه من الطفولة حتى الموت، أي أقرب لصاحبها من أي كائن حي آخر في العالم.
يمكن أن يتخلى المرء عن حواسه المعروفة وغير المعروفة لكنه لا يستطيع التخلي عن لغته، أبداً.
كلما حاولت تطويع لغتي لحوارات الدولة والسلطة والناطقين رسمياً ونواب البرلمان والأمناء العامين للحرية ومدراء الاشتراكية وخطباء الدين والدنيا ينتابني خرس مفاجئ.
كيف أطوع لغتي لحوار مع من يبدأ حديثه بجملة: "لقد بات واضحاً"؟
إذا "بات واضحاً" فلمَ الكتابة والكفاح والفلسفة والفن والشعر والعلم والموت والألم والرحيل؟
كيف أطوّع لغة الحالم للحوار مع لغة الحاكم؟
في المدن الغريبة تنشأ معضلة من نوع آخر: الترجمة.
كل أصدقائي المتزوجين من أجنبيات يمضون حياتهم مترجمين لزوجاتهم حتى إشعار آخر، وهم يتوقفون عن الترجمة ليبدأ الصمت النوعي.
أردت أن أترجم كلمة "تنور" لامرأة إنكليزية فلم أعثر إلا على كلمة مقابلة هي (OVEN) فأحجمت وغيرت فكرتي أصلاً.
كتبت في قصيدة أرثي أمّي: "كيف أترجم وشم يديها؟".. وشم أمي ليس "TATTOO"!
إنه عصر اللعثمة.
العصر الذي لا يتمكن فيه أمهر الرعاة من منع نعجة واحدة عن الثغاء، فكيف بالقطيع؟
لكنني أحاول أصون لغتي من الانهيار بالشعر وأحرس لساني من التلوث البيئي وخيالي من الانحدار إلى "الواقع" حتى لو اتهمت بالغموض.
بينما ينبجس النور من الكلمة تصدر الأوامر السلطانية من الأماكن كلها والأزمنة كلها ليعم التعتيم العام.
اللغة تتيحنا وتعيقنا، تكشفنا وتحجبنا، هي أداة تواصل مع العالم وقطيعة معه.
كتاب كبار قرأهم العالم بلغاته المترجمة ولم يتنازلوا عن لهجتهم الشعبية، وظلوا كباراً في مسقط الرأس أو في ابعد قرية قطبية على الكرة الأرضية.. السر، هنا، يكمن في الإبداع لا في اللغة المجردة.
الإبداع، إذن، هو الوسيلة الأبرز للتفاهم مع العالم.
.. ولكي لا ننسى، علينا أن نتفاهم مع أنفسنا، أولاً.
تخيلت نفسي بلا لغة.. فصمتُّ لدقيقة حتى أدركني ما يشبه الموت.
وشم أمّي ليس "TATTOO"
[post-views]
نشر في: 15 إبريل, 2013: 09:01 م