لا أعرف عدد المرات التي تصفحت فيها موسوعة المؤرح إدوارد غيبسون صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية، قارئاً ومتمعناً في الدروس والعبر التي تقدمها لنا تجارب الشعوب..أتذكر المرة الأولى في بداية الثمانينات حين نبهني أستاذي عبد الرحمن طهمازي إلى القيمة الكبيرة لهذا المؤلف الضخم، حينها لم أستطع أن أكمل الجزء الأول، فقد كنت أشعر بدوران كلما طاف بي المؤرخ في صراع الأفكار والجدل حول انهيار هذه الإمبراطورية التي قضمت في زمن ما نصف الكرة الأرضية.. ومع مرور الزمن اكتشفت معنى أن نتعلم الدرس من الأمم التي توهمت أن الميزان يمكن ان يكون مقياسا لكل شيء إلا العدل.. يخبرنا غيبسون كيف صنع كبار القادة الإمبراطورية الرومانية، فما أن يخرج قائد في حملة حتى تشعر بأن المعركة قد حسمت، فلا قوة مثل قوتهم ولا فرسان مثل جنودهم، ولكن كلما عاد قائد منتصر وهرعت الناس لاستقباله تقدم الجموع الخطيب والفيلسوف سينيكا ليقول له بصوت واضح: تذكّر أنك بشر، إلا أن موسليني وبعد عقود ينسى أنه بشر، ويتذكر فقط أن أجداده الرومان كانوا يحكمون العالم، ورأى أن الشعوب لا تستحق الحرية وإنما القبضة الحديدية.
تسقط الإمبراطوريات حين يختلّ فيها ميزان العدالة، فالقانون في الأمم المتحضرة هو عنوان التوازن في العلاقة بين الحاكم والناس، فالـمالك الدائم للبلاد هو المواطن، أما الحاكم فهو صاحب ولاية متغيرة ذات مسؤولية محددة وواضحة هي: الحماية من الخلل في كل أبواب الحكم، في العدل أولاً، وفي معيشة الناس ثانياً، لأنّ بهذين العدلين وحدهما تستقيم العلاقة بين المسؤول والمواطن.
بالأمس وأنا أستمتع بقراءة عمود زميلي سرمد الطائي الذي نبهني إلى أن أعيد تقليب صفحات موسوعة غيبسون عن اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، لأجد أن المؤلف ظل طوال كتابته لهذا السفر الكبير مشغولاً بجرثومة الاستبداد باعتبارها السبب في تساقط العواصم، ففي فقرة مثيرة نقرأ،: " حين ترى الشوارع مقفرة عليك أن تدرك أن الطغيان وصل إلى أقصى حدوده".
في مسرحية ألبيركامو " كاليغولا " يعترف الإمبراطور الروماني بأن في داخله ظلمة يتحول طعمها في فمه إلى مزيج من الدماء السائلة، وعندما يسأله أحد مرافقيه، عن الليل والنوم، يعترف الديكتاتور بأنه لا يستطيع ذلك، فمجرد أن يغمض عينيه تتحرك الجثث في رأسه وتتسابق حوله أطراف الذين قتلهم وتتدفق دماؤهم كشلال، فنراه يصرّ على أن يقتل كل من يقول أنّ الليل قد حلّ.
ويخبرنا مؤلف الموسوعة المثيرة أن الإمبراطوربة الرومانية سقطت حين استباح الحاكم لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وعندما أصرّ على استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الوطنية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح الحاكم أبواب التنكيل والتهميش والإقصاء والقتل، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن حكامها بأن الحرية حق، والأمان حق،، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادل معهم أكثر من عدله لاقاربه واصحابه، وأن يعتبر الحكم أمانة، وأن يقود الناس إلى حسن صفاء الأيام والليالي.
يصرّ ألبير كامو على أن يقدم مسرحيته كاليغولا بواحدة من أعمق مقالاته عن الطغيان والاستبداد "ينشأ الطغيان من الجهل في أحوال الناس، ولعل أكثر الرذائل المستعصية على الحل هي ، جهل الحاكم الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدّعي لنفسه الحق في استعباد الآخرين".
كان العراقيون ينتظرون نهاية حقبة الدكتاتورية، كي يخرجوا إلى النور، فقد ارهقتهم مدن الحروب والمقابر الجماعية، وبلغت أثمان الاستبداد مئات الآلاف من الضحايا وشعب يعيش معظمه تحت مستوى الفقر، فإذا بهم يجدون أن الوطن يخطف من قبل ساسة مصرّين على أنهم الأوصياء على أحوال الأمة والعباد.
لا يوجد أعظم من قادة يرسخون مبادئ المصالحة والحوار بديلاً للغة الثار والانتقام، الناس بحاجة إلى مسؤول يراعي شؤونها وليس إلى محارب يقف على أبواب روما، إلى رجال فوق التحزب والطائفية وشهوات الانتقام، وقديماً علّمنا عنترة الدرس جيداً:
لا يحْمِلُ الحِــــقْدَ مَنْ تَعْــــــلُو بِهِ الـــــرُّتَبُ... ولا يـــــــنالُ العــــلى من طبعـهُ الغـــــضبُ
وأعود إلى غيبسون وموسوعته الشهيرة لأجده يخبرنا أن الخطر الحقيقي الذي يطيح بالبلدان هو الاستبداد والطغيان، حيث تجد الناس نفسها أسرى لأصحاب الصوت العالي، فيما المستبد يصرّ على أن يبيع للمواطن أمجاداً زائفة مقابل أن يحصل على مزيد من الثروات، مستغلاً خوفه وقلقه، يحيلنا المؤرخ أريك هوبزباوم إلى مقولة سينيكا الشهيرة فيكتب في "عصر التطرفات": "يحيط الظلام والخوف المدن والطرقات حين ينسى الحكام أنهم بشر من لحم ودم".