الكانيباليزم في القاموس، تعني أكل أحدهم للحم بني جنسه. وربما تلك هي التسمية الأفضل التي يُمكن أن نطلقها على الوباء الذي ينتشر اليوم في البلدان الناطقة بالعربية ويحول مهنة الكتابة إلى مهنة كريهة (لحسن الحظ ليس الكتابة ذاتها)، ويسيطر على فعاليات المشهد الثقافي في تلك البلدان، ليقضي على النزر الصغير المتبقي بمواجهة ثقافة تجتر نفسها منذ أزمان طويلة بأكثر من خطاب فارغ، حتى أن البعض منا يحسد نفسه، بأنه لحسن الحظ لا يعيش من الكتابة! يخطئ من يظن أن الصراع الذي يدور في فترة وأخرى، بين هذا الطرف أو ذاك، له علاقة بالفعل بحرية المثقفين، أو بالدفاع عن الثقافة أمام الهجوم "الظلامي" عليها، وإلقاء نظرة واحدة لأطراف الصراع تبين لنا، نحن الذين نراقب ما يجري من الخارج، بأن هناك دوشة كبيرة، يختلط فيها الحابل بالنابل، فحلفاء الأمس هم الأخوة الأعداء اليوم، ولن يتغير الأمر عنه غداً، إذ أن أعضاء كل فريق يتغيرون كل يوم، ناهيك عن عدد لاعبي الاحتياط الذين يحتفظ فيهم كل فريق؛ الصورة النموذجية التي تتلون أمامنا، يمكن تلخصيها بالكانيباليزم!
أن ما يقود إلى الحطّ من الكاتب وجعل مهنة الكتابة بلا قيمة، وأتحدث هنا عن وضع الثقافة المكتوبة بالعربية، ليس المشاكل التي تُثار هنا وهناك، إنما هم الكتّاب ذاتهم، وبؤس الأمور التي تُثار المشاكل بسببها، وهذا الوضع يُمكن اختصاره بالأسباب التالية: التعويض عن سلطة مفقودة، الرغبة بالعيش ملكاً في مملكة عوران الثقافة، الانحطاط الأخلاقي والنظر إلى مهنة الكتابة بصورة لا تختلف عن النظر لمهنة المافيا، التنافس على الحصول على الجوائز والأوسمة، التنافس على الذهاب إلى هذا المهرجان أو ذاك، التنافس على تمثيل البلاد في هذه المناسبة أو تلك، والتقاتل من أجل الحصول على هذا المنصب القريب من الوزير أو ذلك المنصب القريب من الرئيس! في كل هذا التكلف والتصنع والتزييف، إلى حد شتم البعض للبعض الآخر، واتهام البعض الآخر بالعمالة "للاستعمار والصهيونية"، ودمغه بدمغة العميل، تُحاك التحالفات وتُدار المعارك وتُنسج الفخاخ، وليس من الغريب أن يحمل أوراق الشكوى أمام السلطات المسؤولة، عن طريق التبليغ والوشاية، هم ذاتهم الذين كانوا يشكون سابقاً من نظام العشيرة الثقافي، وهم ذاتهم الذين كانوا يتهمون مثقفين آخرين بخرق قوانين "العقد الاجتماعي"، مستخدمين لغة أكثر قسوة، ربما لأنهم كانوا حتى وقت قريب مطمئنين للمناصب والسلطات التي يتمتعون بها. عشنا ذلك في العراق قبل انهيار نظام البعث وفي الكويت قبل احتلال صدام، ونعيشه اليوم في مصر وفي سوريا وتونس وليبيا بعد انهيار الأنظمة هناك. ففي العقود الثلاثة الأخيرة بدّل العديد من كتّاب الأمة "المجيدة" الجبهات، حسب بوصلة عظمة الكتف التي تؤكل. من الصعب أن يقنعنا أحد، مثلاً، بأنه يدافع عن حرية الثقافة وضد مصادرة كتاب شعري (ديوان أبي نؤاس مثلاً)، وهو ذاته كتب المدائح لنظام لم يصادر كتب أبي نؤاس فقط، إنما رفع تمثال الشاعر عن كورنيش دجلة، وغيّر اسم الشارع الذي كان يُطلق عليه اسم الشاعر عقوداً طويلة، بحجة أن أبا نؤاس مجوسي؟ كيف يقنعنا المقاتلون بالدفاع عن أبي نؤاس وهم جميعهم ما زالوا يدافعون عن النظام العراقي المنقرض، وعن كل ما هو رجعي وعنصري في الثقافة؟ أو كيف يقنعنا كاتب آخر بتعرضه لمحاكم التفتيش الدينية التي تتهمه بالتعرض للذات الإلهية في قاموس للاهوت أصدره، وهو الكاتب هذا نفسه الذي فعل كل ما في وسعه قبل سنوات لكي ينال رضا الإسلاميين عندما افتعل صراعاً مع الكنيسة القبطية في مصر؟ عن أية حرية وإبداع يتحدث هؤلاء، وهما أمران لن يجدان الطريق إلى شفاههم إلا عندما يتعرضون هم أنفسهم الى الرقابة ومحاكم التفتيش؟
يتبع