حين حمل حقيبته وغادر البلاد ليشم هواءً جديدا خاليا من رائحة البارود والمياه الآسنة في (دربونته) التي لم تجد مركبات سحب المياه الثقيلة طريقها إليها لا قبل سقوط النظام السابق ولا بعده..لامه كل معارفه فما الذي يجبره على مغادرة بلد يفتح ذراعيه لاستقبال حياة جديدة خالية من التسلط والظلم؟!..وصفوه بـ " البطران " لأنه ترك فرص العمل المقبلة والاستثمارات الموعودة والمستقبل الجميل..واذن، لابد ان يثبت لهم انه سعيد لإحساسه بانسانيته على الأقل في ذلك البلد الأوروبي لكنه كان باردا جدا ولم يشعر فيه بدفء العاطفة قط وبدأ وجع الغربة يلسع روحه بسياط قاسية..
وبرغم ان الاخبار القادمة من بلده لا تعد باستثمارات أو فرص عمل ولا حتى بحياة آمنة وخالية من الظلم إلا انه اقترح على أهله عودته الى الوطن فرفضوا ذلك بإصرار لأجل سلامته فقط بعد ان تحول بلده الى ساحة عنف طائفي مقيت..شعر بالحسد حين شاهدهم عبر شاشات التلفاز وهم ينتخبون حكوماتهم وعاش التجربة مع كثير من المغتربين العراقيين وظن بعدها أن تحولا كبيرا سيحدث في بلده وستتغير الظروف بضغطة زر سحرية فيحصل العاطلون على عمل وتزدهر الشوارع وتدور مكائن المصانع ويضع القانون يده على المسيئين والمخربين ويسير الناس برقاب مرفوعة فلا يلتفتون الى الوراء خشية ملاحقتهم من العيون الأمنية....قال لأهله انه يريد ان يشهد التحول الديمقراطي الخطير لكنه كان تحولا خطيرا الى " اللاأمان " في بلد بدا غريبا عليه لكثرة ما سال فيه من دماء وما مات فيه من ضمائر وما انقلب فيه من ذمم، كان كلما يصفع الصقيع وجهه تقفز إليه من تلافيف الذاكرة "لمة " أهله حول المدفأة النفطية وقد رقد فوقها إبريق الشاي " المهيل " فيتصل بهم ليخبرونه بأنهم يتلفعون بأغطيتهم ليقاوموا البرد بعد ان شح النفط في بلد النفط.. وفي الصيف، كانوا يحدثونه عن شح البنزين والكهرباء والنوم وعطل المولدة الكهربائية وازدهار معيشة البعوض..كان يتألم لأن أهله يشوهون كل الصور الجميلة التي يحتفظ بها في ذاكرته عن بلده لذا قرر العودة ليثبت لهم انه ليس بأقل منهم تحملا لظروف بلده (الانتقالية) وانه سيعيشها معهم بكل تفاصيلها حتى يتحقق الحلم الوردي الذي انتظره العراقيون طويلا إذ يبدو انه لم يكن " بطرانا " حين غادر بلده بعد التغيير مباشرة بل كان "بطرانا " لأنه تصور أن هناك تغييرا حقيقيا ستحدثه الأيدي العديدة التي امتدت لتتلقف الوطن بعد أن أفلتته اليد الدكتاتورية عنوة..
حين عاد، لم تعد مشكلته حر الصيف ولا برد الشتاء ولا حتى البحث عن دفء " لمة " اهله..صارت مشكلته الحقيقية هي البحث عن وطنه الغافي تحت أكداس من رفات الضمائر الميتة والأصابع المتفننة في السرقة واختطاف الفرح من قلوب الناس....كان قد قرر ان ينفض عن رأسه بقايا الجليد الأوروبي ويتدفأ بالشمس العراقية ويمد يده ليبني بلده لكنه اكتشف ان اليد التي لا تسرق لا تستحق ان تشارك في عملية (التحول) الديمقراطي من الجيوب الفارغة الى البنوك الخارجية الممتلئة بالمال العراقي (السائب)..في النهاية وبعد ان عاش الواقع العراقي الجديد بكل تفاصيله آمن بفلسفة الشارع العراقي الجديدة التي تقول: " نرضى بأن يحكمنا سارق جديد وان يسرق خبزنا....وليمنحنا نصفه فقط على ان يكون مغمسا بالأمان..لكيلا نحمل وطننا في حقيبة..ونغادر.."
جميع التعليقات 1
رمزي الحيدر
الرضى و الخنوع هي أحدى صفات المجتمع العراقي الرئيسية ، وهي التي جرت العراق الهاوية.