فريدة النقاش rnمصر rnرغم أن قضية العلمانية ليست مركزية في كتابه الجديد الصغير للباحث سيد ضيف الله «كيف نحكي المواطنة»، إلا أن الفصل الخاص بـ«العرب والموالي الجدد ومركزية العالم الإسلامي» توقف أمام تجربة الإسلام الآسيوي والنموذج الأندونيسي على نحو خاص،
ففي هذا النموذج ابتكار لعلمانية لا تخاصم الدين تتجسد في مفهوم دولة «البانكاسيلا» ذات الأركان الخمسة وهي كالتالي: الإيمان بالله واحد متعال، ثانيا: إنسانية يسودها العدل والتحضر، ثالثا: وحدة أندونيسيا، رابعا: ديمقراطية شعبية تقودها الحكمة الناتجة من التفاوض والتمثيل، خامسا: العدالة الاجتماعية لكل الأندونيسيين.rnوخلاصة الأمر أن أكبر بلد إسلامي في العالم لم ينص دستوره على دين للدولة، وأندونيسيا التي تضم 235 مليونا من السكان 90% منهم مسلمون هي أيضا بلد متعدد الأعراق والديانات دخلت الإسلام في القرن الأول الهجري وحمل رسالته إليها التجار والملاحون العرب الذين كانوا أمراء بحار الشرق في ذلك الحين، فحمل إسلامها طابعا مفتوحاً متسامحا وعقلانيا.rnثم خضعت أندونيسيا لاحتلالين «هولندي» و«ياباني» واستقلت عام 1945 بعد مقاومة باسلة للاحتلال، وكان لتحالف الإسلاميين مع القوميين أثر كبير في خروج المستعمرين، ولكن التحالف تفكك حين رفض الرئيس «أحمد سوكارنو» جعل الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع لأن بلاده دولة متعددة الأديان والأعراق، وهكذا انحاز الآباء المؤسسون لقيام دولة مدنية تشجع الدين ولا تستبعده من حياة الناس.rnوبعد نضال طويل ضد ديكتاتورية «سوهارتو» التي دعمتها الإمبريالية الأمريكية خرجت التجربة الديمقراطية الأندونيسية لتشكل ثالث أكبر دولة ديمقراطية في العالم ورغم وجود تيارات أصولية متطرفة حمل بعضها السلاح وفجر القنابل فإن الطابع العام للإسلام في أندونيسيا هو على حد قول أحد الباحثين «إسلام بشوش» ذلك أن الدولة المدنية «دولة البانكاسيلا» كما سبق تحديد شعاراتها ليست مجرد تسمية بل إن لها مضمونا عميقا في ثقافة البلاد وتعليمها وعلاقاتها الاجتماعية وخطط تنميتها ورؤية شعبها للتعددية الدينية والعرقية واللغوية واحترامها بحيث لا تكبل رؤية دين الأغلبية حرية تطور المجتمع، ولا تقمع الفكر أو البحث العلمي أو تصادر حقوق النساء بدعوى الفتنة كما تفعل جماعات ترفع شعارات إسلامية في بلدان أخرى مثل طالبان في كل من أفغانستان وباكستان، ومثلما تفعل حماس في فلسطين، أو الجماعات الدينية المتعصبة في كل من العراق وإيران التي تقمع ثراء المجتمع والثقافة وتحصرهما في عالمها الضيق الجامد والمتزمت وليس النص في دساتير هذه الدول على دين الدولة - هو الإسلام بطبيعة الحال - مجرد مادة دستورية ولا قانونية موجهة للمشرع وليس للقضاة كما يقول مفسرون مصريون لهذه النصوص، ولكنها تبقى مواد حاكمة ومتحكمة يتولي قضاة بأنفسهم تفسيرها قافزين فوق سلطة المشرع كما سبق أن حدث في مصر في قضية تطليق الدكتورة «ابتهال يونس» من زوجها الباحث في علوم القرآن د. نصر حامد أبوزيد في مطلع التسعينيات بدعوى أنه مرتد رغم أنه من الثابت عدم وجود حد ردة في القرآن، أو نص قانوني يعرف الارتداد ويعاقبه.rnووقعت أحداث مشابهة في بلدان إسلامية أخري اعتمادا على هذه المواد الدستورية والقانونية، بل إن كل الجماعات الدينية التكفيرية المتطرفة تستمد شرعيتها من هذه النصوص وهي تتهم الدول الحديثة بالخروج على شرع الله، وتشحذ أسلحتها لإقرار هذا الشرع - كما تراه - بحد السيف وتقتل المخالفين.rnلهذا كله تبقى هذه العلمانية المبتكرة في أندونيسيا نموذجا ساطعا تطبقه أكبر دولة تضم مسلمين في العالم دون أن يخرج شعبها من جلده أو ينقلب على ثقافته وتاريخه، وهي كلها ادعاءات يطلقها أصحاب المصالح وتجار الدين وهم يطبقون الآليات الداخلية لأعتى أشكال الاستبداد رافعين راية الله سبحانه.rnوقد شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة عددا من الوقائع الدالة في سياق حرية الفكر والاعتقاد التي ينص الدستور على حمايتها بينما تلغيها المادة الثانية منه واقعيا، وهو ما يطرح علينا ضرورة إجراء مناقشة صريحة، عقلانية وموضوعية حول ضرورة إلغاء هذه المادة مع كامل الاحترام للديانات كافة وحتى يكون مثل هذا الاحترام فعلا لا قولا لابد من أن تكون الدولة محايدة بين كل الديانات ومبدأها الأساسي المواطنة.
«البانكاسيلا».. إسلام بشوش
نشر في: 30 سبتمبر, 2009: 06:52 م