ضمّت المسابقة الرسمية للأفلام الخليجية القصيرة خمسة و ثلاثين فيلماً في الدورة السادسة لمهرجان الخليج السينمائي، و كان فيلم "كنت هناك . . . في بغداد" من بين الأفلام الرئيسة التي تمتلك شروط نجاحها و تميزها التي قد تصل بها إلى حد التفرّد. فقد بن
ضمّت المسابقة الرسمية للأفلام الخليجية القصيرة خمسة و ثلاثين فيلماً في الدورة السادسة لمهرجان الخليج السينمائي، و كان فيلم "كنت هناك . . . في بغداد" من بين الأفلام الرئيسة التي تمتلك شروط نجاحها و تميزها التي قد تصل بها إلى حد التفرّد. فقد بنى المخرج العراقي عرفان رشيد فيلمه الوثائقي المُعبِّر على مستويين ذاتي و موضوعي، بل ربما أخذ المنحى الذاتي بُعداً أشمل لأنه ينطوي على ما يمكن تسميته بالكتابة الحميمة التي ترصد الذات و كل المعطيات المحيطة بها، و أكثر من ذلك تجليات هذه الذات الإبداعية الخلاقة التي تنتمي لصحفي و ناقد و مخرج سينمائي في الوقت ذاته.
و لو توخينا الدقة لقلنا إنه مخرج سينمائي شاعري بمعنىً من المعاني لأن لغته المتدفقة في هذا الفيلم تحديداً كانت عفوية و منسابة تلامس شغاف القلوب و تستوطن فيها. أما المستوى الموضوعي فإن الفيلم يتمحور على مقارنة الإطاحة بالفكر اليساري في العراق مع ما حدث في تشيلي و الأرجنتين، لكن هل تصحّ المقارنة على الرغم من الفوارق الثقافية و الاجتماعية و الحضارية بين هذه البلدان الثلاثة؟ و إذا لم تصحّ المقارنة، فما هي الأسباب التي تحول دون ذلك؟ لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن المخرج عرفان رشيد هو مبدع عراقي منفي من بلده، و مقتلع من جذوره قسراً، فلا غرابة إذن حينما يستجير بالرؤية الكونية للمنفى التي جسّدها الشاعر الإسباني روفائيل ألبرتي، فذات مرة سأله عرفان رشيد عن معنى المنفى و طبيعته و ما الذي يفعله بالكائن المنفيّ، فأجاب: " . . . قد يتحول المنفى إلى وحش دموي يحاول اقتلاع جذورك من داخلك. بمقدورك الصمود إذا ما اقتنعت بأنك لا تزال هناك في وطنك". و ربما تختزل الجملة الأخيرة من إجابة ألبرتي قناعة عرفان رشيد و رؤيته التي تعمّقت لطبيعة المنفى فشعر طوال سني غربته أنه كان هناك . . . في بغداد و لم يستطع أحد أن يقتلعه من وطنه على الرغم من أن التضحية كانت جسيمة، والثمن كان باهظا على جميع المناهضين للدكتاتورية. بدأ الخيط الذاتي يتأسس شيئاً فشيئاً من خلال شخصية إبراهيم الذي كان شيوعياً و حالماً كبيراً بالاشتراكية شأنه شأن الكثير من اليساريين في العالم، لكن هذا الحلم وُئد حينما قبضت عليه سلطة القمع والدكتاتورية البعثية وزجّت به في السجون و المعتقلات السرية ثم وُجدت جثته مشوّهة جرّاء التعذيب الوحشي الذي تعرّض له قبل أن يفارق الحياة. من هنا تنبثق فكرة الفيلم التي يتداخل الذاتي بالموضوعي لتنفتح لنا خصوصية الحياة العراقية التي نعتبر فيها الهمّ الذاتي همّاً وطنياً و إنسانياً، صحيح أن المخرج عرفان رشيد أدان القمع البعثي، و ندّد بوحشيتهم حين قال بأنهم وجدوا جثة إبراهيم في مجاري المياه القذرة، و أن لغة الحديد و النار هي الآلية الوحيدة التي تعتمدها الأنظمة الاستبدادية لقمع الشعوب في معظم أرجاء الكرة الأرضية، فذلك هو سلفادور اللندي الذي لم يحكم بلاده سوى ثلاث سنوات على الرغم من انتخابه من قبل الشعب التشيلي، لكن بينوشيه أطاحه بانقلاب عسكري فحكم البلاد بالحديد و النار أيضاً مُعطلاً البرلمان و مُنتهكاً الدستور لسنوات طويلة، كما ينطبق الحال على الرئيس الأرجنتيني أورتورو إيليا المنتخب رسمياً عام 1963، لكن الانقلابين كانوا له بالمرصاد فأطاحوه عام 1966. لا شك في أن المستبدين يستهدفون المثقف في كل مكان، لأنه الضمير الحيّ لشعبه، و المقياس المرهف الذي يشير إلى تململ الشعب الرازح تحت قبضات مستبديه، فلا غرابة أن يُقتل إبراهيم أو يُستهدف كامل شياع، أو يغيّب أي شخص علماني متفتِّح يؤرق الأنظمة المستبدة، و يقضّ مضاجعها في كل مكان. لقد أراد عرفان رشيد أن يقول بأنه لا فرق بين ضحايانا العراقيين من المثقفين و العلمانيين وبين أي مثقف سواء أكان من تشيلي أم من الأرجنتين أم من أي بلد آخر في هذا العالم. لا تقتصر المقارنة على المثقفين حسب، و إنما تتعداها إلى الأمهات البسيطات اللواتي يعرفن أشياء كثيرة قد لا يعرفها حتى الإنسان المتعلّم نفسه، فأم إبراهيم كانت تدرك بحدْسها القوي أن ولدها قد فارق الحياة على الرغم من صوره العديدة التي كانت تصل إليها بعد مقتله على أيدي الجلادين، فالرتوش و اللمسات الخفيفة هنا و هنا لم تخدع قلب الأم الذي يشعر بلوامسه الغامضة ،أن إبراهيم قد فارق الحياة على أيدي القتلة و المستبدين، و هي تماماً مثل الأمهات التشيليات أو الأرجنتينيات اللواتي كنّ يحيّين ذكرى أبنائهن الذين قُتلوا غيلة في وضح النهار. ذكر عرفان رشيد بأنه كتب قصته السينمائية خلال ساعتين و لم يعدّل فيها أي شيء لأنه أفرغ ما في قلبه و ذهنه دفعة واحدة مذكِّراً إيانا بأن الحزن على الغائبين لا ينتهي أبداً، و أن ساحة مايو في تشيلي تقودنا بالتأكيد إلى ساحة التحرير في بغداد، و أن شارع فلوريد قد يفضي بنا حتماً إلى شارع النهر على الرغم من خصوصية بعض التفاصيل، و ثمة أمكنة و ذكريات لا بد أن تعيد المُغترب إلى وطنه قبل أن يتحول المنفى إلى وحش دموي مرعب. يمكن القول بأن المخرج عرفان رشيد قد نجح في تحويل فيلم "كنت هناك. . . في بغداد" إلى وثيقة صوتية و بصرية دامغة تدين القتلة في كل أرجاء العالم، لكنها في الوقت ذات تفتح باب الأمل على مصراعيه لأنه سوف يفضي حتماً إلى بصيص الضوء الذي يتوهج في نهاية النفق الطويل.