في صخب العنف والتلاعن ووسط دخان معارك سلطاننا التي أدانها كل العراق نهار الثلاثاء، أعجبني أيما إعجاب مقال للكاتب الشاب ذي اللمحات الذكية احمد النواس الذي قام بنقل المالكي من أزمة الحويجة الى ظهوره على قناة العراقية ليلة الاقتراع الخاص، حيث بدا رئيس الحكومة حريصا على العملية السياسية غير راغب بالذهاب الى البرلمان وكشف "ملفات ساسة كبار مجرمين".

يكتب احمد النواس: "وإنني لأعجب كيف يصبر من يمتلك ملفات وأدلة على إرهابيين في قلب العملية السياسية ونافذين فيها، يستقرون في قلب العاصمة ويتجولون في منطقتها الخضراء.. بدوافع قيل إن من أهمها الحرص على العملية السياسية، ولا يصبر على وجود إرهابيين مفترضين، بلا أدلة دامغة ولا ملفات، بعيدين عن بغداد بمئات الكيلومترات يستقرون في خيام في العراء تطوقها القوات الأمنية؟ أوليس الصبر والأناة والحلم والحكمة هنا أجدى؟".

لماذا لم يصبر المالكي في الحويجة؟

لقد قال المالكي انه لن يذهب للبرلمان حتى لا يكشف المستور وحتى لا "تنقلب الدنيا" لكنه اختار ان "يقلب الدنيا" من الحويجة هذه المرة بعد ان شعر بأنه لن يستطيع ان يتهرب من رقابة البرلمان الى الابد. وحين شعر ان حلمه بالسلطنة لن يكتمل.

ولعل أهم ما حصل وترك المالكي صامتا طيلة يوم الثلاثاء، لا بيان ولا هم يحزنون، هو غياب التأييد العراقي له. لم يؤيده حتى صديقه الجديد مشعان الجبوري. حقا اين هو مشعان؟

والمهم انه تأكد للجميع نهار الثلاثاء انه لا توجد جهة شيعية سياسية لزمت الصمت حيال ما حصل في الحويجة. الصدر وصف المدينة بالجريحة، ومتحدثو المجلس الأعلى طالبوا بسحب فوري للقوات وفتح المجال أمام الحل السياسي والاجتماعي. وستتواصل المواقف وتسمعون الجمعة نقدا قاسيا من مرجعية النجف للمالكي الذي سبق وان سمع من كبار العلماء سنة وشيعة، نصيحة بإبعاد الجيش عن ساحات الاعتصام.. لكن الرجل لا يفضل نصائح العقلاء كما سجلت سيرة ٧ اعوام من فشله السياسي والخدمي.

لم يجد المالكي طرفا شيعيا دينيا او سياسيا يسند موقفه. سبق للحكيم والصدر ان قالا له طيلة أعوام: أنت لا تستشيرنا في القرارات الخطيرة، فكيف تطلب معونتنا بعد ان تقع في الخطأ.

لقد كتبت مقالا مع اندلاع التظاهرات قبل ٤ شهور عنوانه "استبداد المالكي ليس شيعيا". وها انا اكتب اليوم ان اخطاء المالكي وورطته بدم العراقيين  ليست شيعية. ان الشيعة كانوا بين ابرز المعترضين على نهجه منذ ٢٠١٠ وقد وجهوا جمهورهم ضد سياساته. كما ان الناخب الشيعي عاقب المالكي يوم السبت الماضي وجعله يخسر ٨٠ مقعدا في مجالس المحافظات برغم لجوئه للتحالف مع الجعفري وبدر والفضيلة.

وبالطبع فإن القول بأن اخطاء المالكي ليست شيعية لا يعني اعفاء التحالف الوطني عن مسؤوليته التاريخية بوصفه الكتلة الاكبر في البرلمان. لكن اشد ما سيقيد سلطة المالكي ويمثل مخرجا للخلاص من تسرعه وارتجاله واندفاعاته الخطيرة، هو الموقف الشيعي الاحتجاجي. ويحسن بالمتظاهرين ان يدركوا ذلك وأن لا يضعوا كل الشيعة في سلة واحدة. وأن لا يتسرعوا ويرتجلوا ويفقدوا الحكمة كما فقدها السلطان وانتهى معزولا منبوذا سياسيا.

ان الاخطاء الفادحة تهدد المصالح الكبيرة التي تربط بقوة التاريخ والجغرافيا السياسية، مكونات العراق من بحر البصرة حتى شط الفرات الاعلى وسفوح كردستان. كل العراقيين ضحايا لاخطاء المالكي وتفرده وسده لأذنيه عن التوصيات والمطالبات. كما كان كل العراقيين ضحايا للحماقات التي ارتكبها سيد الموت صدام حسين. والمهم في هذه اللحظة ضبط لغة الخطاب من الجانبين كي يتمكن العقلاء من حماية التيار المعترض الذي يواجه دبابات يقودها فريق ناقص الحكمة لا يستشير ولا يسمع. وضبط لغة الخطاب لابد ان تنتهي بحوار عميق عاجل بين السنة والشيعة المعترضين على نهج المالكي.

وسيكون التفاهم المتماسك المعلن هذه اللحظة مشجعا لأرفع القيادات في البلاد على خوض تفاوض لم يعد قابلا للتأخير مع اميركا وإيران الراعيين الرسميين لحفلة الحمق التي لاتليق بعراق تعددي ابدا. وقد بدأت واشنطن وطهران تضيقان ذرعا بكل هذه الاخطاء، كما يقول العارفون.

ان تصوير المالكي كأمير للشيعة، امر يفك عزلته ويقوي فريقه. ويحسن بالمتظاهرين ان لا يقعوا في هذا الفخ، وأن يفتحوا عيونهم على التنوع المفرح في المواقف السياسية من البحر الى الجبل. فهذا التعدد السياسي هو الذي يمنع ظهور دكتاتور، ويمنع الدبابات من ارتكاب المجازر الكبرى، افضل من مليون مسلح.