تاريخنا العراقي المعاصر مثقل بثقافة "الطائفة" الواحدة، وهي طائفة سياسية، وإن ركبت مركب الطائفة الدينية، أو العكس، علناً أو مراوغة، وهي طائفة، دائماً، حاكمة بينما الطوائف الأخرى، كلها، محكومة.
أستبق القارئ، كي لا يذهب به "المذهب" بعيداً، فأقول: ثمة "طائفة" اليوم، حاكمة بينما بقية "لطوائف محكومة، كما حدث منذ تأسيس الدولة العراقية، إلا في فترات قصيرة، نادرة، كان فيها عبد الكريم قاسم ابن الطائفتين، لناحية الأب والأم، فلم يحكم بعاطفة طائفية ما، لأنه حكم العراق باسمه الشخصي.
حكمتنا، عبر تاريخ العراق الحديث "طائفة" من السياسيين، لا رجال الدين طبعاً، وبعض الطائفة تلك "ضباط أحرار" عاونهم قضاة وضباط تحقيق ووزراء ورؤساء تحرير ومديرو مكاتب وسكرتيرون وذوات سطوة في كليات عسكرية وشرطوية وأدبية وعلمية وفنيّة وووو...إلخ.
تقاطعت "طائفة" السياسيين مع سياسة "الطائفيين" فالتقت الطائفتان وغذت إحداهما الأخرى، حتى كادتا أن تتحدا، في الجوهر وأسلوب إدارة الدولة وانقلاباتها العسكرية، حتى أن ضحايا الانقلابات حملوا على جلودهم سياط جلاديهم بإيقاعات متفاوتة الشدة وفق حماس الجلاد/ المحقق وعاطفته إزاء ابن طائفته حتى في زنزانة التعذيب، وهذا ما عرفنا إثر انقلاب البعثيين في 8 شباط 1963.
إذ أضع مفردة "طائفة" بين قويسات فلست أعني التشكيك ولا النفي ولا أن المفردة مثار جدل، فهي أكثر من ذلك بوضوح تام: مثار حروب وعصبويات وإرهاب متبادل وتوتر اجتماعي ساد البلد العراقي، بل بلدان عربية عدة، لأن مفردة "طائفة" ما عادت تنتمي إلى استعمالها اللغوي العام: طائفة من الناس (جماعة) أو طائفة من العلماء أو طائفة من الفنانين أو طائفة من شرطة المرور، فهي اليوم "طائفة" مذهبية، دينية، على سن ورمح، في الحكومة ومعارضيها، في المنطقة الخضراء وفي اعتصامات الفلوجة والرمادي وسامراء وسائر ما يسمى بالمنطقة الغربية، وهي كذلك في "تظاهرات" بعض مدن الجنوب والوسط المؤيدة لحكومة المنطقة الخضراء، للأسف جداً.
كيف يتأتى لرجل دين يضع على رأسه عمامة بيضاء، أو سوداء، أن تنتفخ أوداجه بالتهديد والتحريض والتأليب الطائفي وهو الداعية إلى التي هي أحسن وأهدأ وأعقل وأوجب؟
بدت اعتصامات العراقيين في المنطقة الغربية بالضد من اعتصامات العراقيين في الجنوبية، بينما هناك الكثير مما يمكن أن يجمع بين الاعتصامات في طائفة بين "الطائفتين" ليشتد عودها وتتقوى كل من الأخرى ضد التهميش والإقصاء وسائر المطالب العراقية المشروعة، في جهات العراق الأربع لا في جهة أو جهتين.
الحكومة العراقية اعترفت ببعض الحيف وأطلقت مئات المعتقلين، أو بضعة آلاف منهم، ووعدت بإنجاز متعلقات معلّقة وشكلت لجاناً لدراسة أو تنفيذ مطالب أخرى، وبالمقابل ثمة تصعيد في سقف المطالب حدّ التهديد بالزحف إلى بغداد لإسقاط الحكومة، وأوشكت، شخصياً، وسمعت من كثيرين أوشكوا على الالتحاق بالزاحفين لولا... طائفية بعض زعماء الاعتصامات وزعيقهم العصبوي لـ"إعادة بغداد إلى أهلها"! من هم أهلها؟
أهل بغداد هم البغادّة، بناتها وسكنتها والذائدون عنها ومقاومو سلطاتها الدكتاتورية المتعاقبة، وتنويريوها ومربو أولادها،أما مجازياً فقد تعني "إعادة بغداد" عاصمةً جامعة ينعم كل العراقيين بقيمها المدنية والحقوقية والاقتصادية وتاريخها الملون بأطياف وطوائف وأقليات وجماعات متعددة عاشت مئات السنين مع بعضها بعضاً، ونزفت جميعاً دمها البغدادي الواحد من أجل الحرية في عيش مشترك ومسالم وإن لم يتحقق منه شيء حتى الآن!
نحن بحاجة إلى طائفة بين الطائفتين، محصلةً لجمع، وتقسيم عادل، متطلبات العيش المشترك، المكفول دستورياً، والمتطلع إلى بغداد عاصمة للجميع، عاصمة مدنية، رحيمة بأبنائها الذين لم يسترخوا لحظة واحدة جراء أسلحة الطائفتين وزعيقهما وشرَههما وشرّهما ومفخخاتهما وفسادهما العميم.