TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في بلاد "المطلك" وسياسيي "التوك شو"

في بلاد "المطلك" وسياسيي "التوك شو"

نشر في: 3 مايو, 2013: 08:01 م

آخر نكتة يمكن أن تسمعها، هي أن تمارس السلطة والنفوذ لسنوات، وتتربع فوق مؤسسات الدولة، ثم فجأة تكتشف أنك خُدعت، وأن الترفع عن المنصب هو أفضل ما تختتم به جهادك السياسي.
آخر تقاليع السياسة العراقية هي عبارة: "المسؤول غير مسؤول" عن أفعال وخطايا الحكومة، وآخر فصول المسرحية أن يخرج الممثل ليقول جملا مرتبكة من عينة: "أنا نادم، لم أكن أعرف بما يجري.. ولن أُعيدها ثانية.. ياجماعة صدقوني".  
تذكرت كل هذه "الفصول التراجيدية"، وأنا أستمع إلى خطبة الندم التي يلقيها على مسامعنا كل يوم صالح المطلك، والمشهد المأساوي الذي خرج علينا به الوزير المستقيل محمد تميم.. وكلمات اللوعة والأسى التي أطلقها وزير الزراعة عز الدين الدولة، ومن بعده خطبة الوداع للحاج عبد الكريم السامرائي وزير العلوم والتكنولوجيا، في كل يوم نمضي فصولا مع آهات الندم ودموع صحوة الضمير، الجميع يتحدث عن فخاخ المالكي،فيما لا أحد يتحدث عن قلة خبرة وعقم تجربة الكثير ممن اعتلى "كرسي" السلطة.
في واحد من أجمل حوارياته يخبرنا أفلاطون حكاية أرسطو مع تلامذته حين أخذهم إلى حقل نصبت فيه فخاخ من "الدبق" وسألهم ماذا ترون؟ فتحدث أحدهم عن ألوان العصافير، وآخر عن أحجامها، وثالث عن جمال المنظر، فقال سقراط لهم  :الأهم هو أن العصافير الصغيرة وحدها من تقع في الفخ، الكبار يعرفون الفخ عندما يرونه، تعلم ساستنا أنهم لا يذهبون خارج المنصب إلا إذا أخذوا البلاد معهم إلى المجهول والخراب.
تشعر الناس بأن ثمة ظلماً كبيراً يحيط بهم، وثمة قهر واستهانة بحقوقهم، والأسوأ من هذا كله ترقيع جسد الوطن بشعارات وخطب طائفية، فنجد عضو برلمان يرفع راية إنصاف "الشيعة"، وآخر يتحدث عن ظلم "السنة"، ولا أحد يتحدث عن الوطن باعتباره جسدا واحدا، كل خلية فيه لا تعمل إلا بصلاح الخلية الأخرى، وأن الشيعي سيكون مطمئنا عندما يكون السني شريكا ومساويا في الواجب وحصاد الخير والمصير.
يستحق العراقي اليوم أن يجد أمامه مسؤولا وسياسيا في مستوى التضحيات التي قدمها خلال العقود الماضية.. يستحق العراقي عدلا اجتماعيا لا يقسم، ويشرق على جميع العراقيين، لا يشرّف المواطن "الشيعي" سياسي محتال يتحدث بالمظلومية وبإرث "الإمام الحسين" وهو يهرّب أموال الفقراء ويشيع الفساد والخراب، ولا ينصف " المواطن السني"  مسؤول  يتحدث عن الإقصاء والشراكة وتراه يقرب كل يوم أهله وعشيرته ويعتبر المنصب إرثا عائليا، إن ما يقوّي العراقيين مسؤولون وسياسيون يرتفعون فوق الطائفة والتحزب، في مسرحية "الإنسان والشيطان" لبرنادشو، يقول أحدهم: "السياسة، دعك من شعاراتها لأن أصحابها يعرفون كيف يكذبون"! ورأى الكواكبي أن خداع الناس هو أساس الفساد، وقال إن المسؤول المخادع هو الذي لا تربطه بالناس رابطة الإنسانية".
لم يعد ممكنا أن يتحول العراق إلى "كعكة" توزع وفقاً لمبدأ "أعطني وأعطيك"، ملت الناس من سياسيين شعارهم "ليس في الإمكان أحسن مما كان".
قال ديغول لوزير ثقافته اندريه مالرو "مأساة السياسيين أنهم انقطعوا عن الإيمان ببلادهم" لايمكن بناء وطن لا يؤمن ساسته به ولا يثقون بعضهم ببعض، وهذه الثقة تحتاج سياسيين ومسؤولين "نزهاء"، لا صبيان يدفعون بنا كل يوم إلى وطن لا يحده سوى اليأس، موسعين الهوّة بينهم وبين الناس، مسؤولين يحق لهم كل شيء، ومواطنين لم يعد يحق لهم حتى الحلم، ما معنى أن يتمتع السياسيون وعوائلهم ومقربوهم بكل الرفاهية والامتيازات، فيما البؤس ينشر ظلاله الكثيفة على الجميع، لم يعد مقبولا أن يدخل "أحدهم" باسم المحرومين والمستضعفين، ثم بعد سنوات يخرج من المطار محملاً بكل ما خف وزنه وغلا ثمنه ، لم يعد ممكنا ولا مقبولا أن تعتاش السلطة على عجز المواطن وذله وإهانته، وأن تقتل الناس بالمفخخات وكواتم الصوت، بعد أن كانت تغيب بالحروب وزنازين الموت، وأن تتفشى البطالة والأمية والفقر والمرض والجريمة والفساد.، ولم يعد ممكنا أن نحمّل الأجندات الخارجية والمؤامرات الوهمية فشل عشر سنوات وضياع مئات المليارات من ثروات العراقيين..لم يعد مقبولا أن يعيش أبناء المسؤولين في نعيم و" بحبوحة " لم يرثوها عن جد أو عم أو أب، وإنما ورثوها من مال سياسي فاسد ومسروق يعتاش على خلق الأزمات.
كان مونتسكيو يقول: "إنني أُسمي تفصيلا كل ما له علاقة بتسيير اليوميات، أما تدبير شؤون الدولة فأقرب إلى النصوص الإلهية التي لا يجوز العبث بها".
ما يدور اليوم على منابر السياسة عبث يدعو إلى الأسى، ويثير القلق والشفقة على المصير البائس الذى تنزلق إليه البلاد بفضل سياسيين ومسؤولين يريدون أن يحولوا معاناة الناس وآلامهم إلى برامج "توك شو" ترفيهية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. كاطع جواد

    منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى سقوط الصنم في ٢٠٠٣ كان الهدف والشعار الذي يريدوه ويرفعوه الزعماء السياسيون هو اقامة نظام ديمقراطي حقيقي تعددي يتساوى فيه المواطن العراقي مع أخيه الاخر دون نظرة الى دين او مذهب او قومية ، لكن للاسف الشديد هو وقوع العراق في فخ

  2. علي رحماني

    اتمنى لويقراون هذه المقالةولكنهم لا يقراون ...ولو قرأو ...لقاتلوك ...وهم يضحكون علينا جميعا وليس في قاموسهم شيء اسمه الوطن.... مع حبي واعجابي ومتابعتي الدائمة لك ايها الرائع الجميل

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram