نحن نجرب شعوراً نادراً ببعض نتائج التهدئة حتى لو كانت على سبيل العلاج المؤقت. لقد تعب الجميع من الأشواط المنهكة، وقد بدا المالكي نفسه محتاجا للهدوء، وراح زعيم ائتلاف دولة القانون يتحدث هاتفيا مع محرر جريدة "الحياة" السعودية طالبا التهدئة والتطبيع مع الخليج.
لقد تعب الجميع إذن، بما يشمل الفريق العسكري والسياسي لرئيس الحكومة.
وقبل ١٧ شهرا بدا أن العراق الذي فرح بصيغة استقرار جزئي بعد تشكيل حكومة ٢٠١٠، قد تحول إلى مركبة طويلة تمشي بأقصى سرعتها لحظة خروج الأميركان. كانت مركبة المالكي تحرص على المرور فوق كل المطبات المتاحة. وقد استنزفنا كل شيء بالسرعة القصوى هذه، وخسرنا فرصا لتحقيق التقدم. وخلال ذلك فإن الصحافة والبرلمان وباقي مستويات الرقابة، لم تبذل جهدا كافيا لرصد ما يحتاجه العراقيون في المجالات الحقيقية، لأن الجميع انشغل بحركة الدبابات وأوامر إلقاء القبض وأحكام الإعدام وباقي مجالات صناعة الوهم، منذ خرجت أميركا وحتى هذه اللحظة.
لقد تمت مشاغلة العراقيين عن مآسيهم الكبرى منذ ١٧ شهرا، وانهمكنا في سجال بدائي رديء، عرب ينهشون لحم الكرد، وشيعة وسنة يتلاعنون، ورحنا نتأثر بكل البذاءة السياسية من حولنا وخاصة حكايات سوريا والشام وما يحفها من ميثولوجيا وأساطير الصراع وملاحمه وفتنه.
تعب الجميع من الأشواط المنهكة، وقد بدا المالكي نفسه محتاجا للهدوء، وراح زعيم ائتلاف دولة القانون يتحدث هاتفيا مع محرر جريدة الحياة السعودية طالبا التهدئة والتطبيع مع الرياض. وليت المالكي قام باختيار الكلمات المناسبة التي رددها على التلفون مع الصحفي السعودي، وشعر بضرورة اللجوء لهذه اللياقات العالية والعبارات الحلوة، في الشهور الـ ١٧ الماضية، مع شركائه وخصومه وشعبه، وكان في وسع عبارات مسؤولة كالتي نشرتها جريدة الحياة على لسان سلطان بغداد، أن تجعل مكاسبه اكبر وخسائره اقل، وقد خسرنا جميعا الكثير في هذه الشهور.
إن سلوكه وإصراره على أن يمشي فوق كل المطبات بتلك السرعة القصوى، استدعى تدخلا كبيرا من الراعين الرسميين له، واشنطن وطهران، لمنعه من أخذنا جميعا إلى نكسة أعمق. وليت هذه الاستراحة تمنحه وقتا للتأمل في كل ما جرى. وليتها تشجعه على التقاط أنفاسه والتفكير بشيء من السكينة فيما آلت إليه الأمور.
هل فعلت ما فعلت من اجل الانتخابات يا حاج؟ لقد حشدت كل "منجزاتك" وجازفت بالعلاقات الوطنية وقمت بتصعيد رهيب، والحصيلة أن الحكيم والصدر التقطا أكثر من ١٢٠ مقعدا في الحكومات المحلية، بينما لم تحصل أنت وحلفاؤك سوى على ٩٧ أو ١٠٠ في أفضل الأحوال. إن جزءا كبيرا من جمهور الناخبين ومعهم جمهور الصامتين، لم تعجبهم طريقتك في التصعيد اللا مسؤول. انتخابات المحافظات كانت استفتاء على نهجك، والغالبية صوتت بكلا.
هل سيتاح لك أن تفكر بهدوء في هذا، أم انك ستعود إلى الحيل القديمة لتجرب تكرارها؟ المال والنفوذ سيعجزان عن شراء كرامة الناس، ولن يمكنك أن تمضي أكثر في شق صفوف خصمك، فقد فشلت في تركيع طاقم المجلس الأعلى رغم انشقاق بدر. وقل مثل هذا عن انشقاقات أخرى كنت أنت سعيدا بها (انشقاق العصائب عن الصدر، وجماعة عالية نصيف عن العراقية، والكربولي الذي تؤجل الانتخابات من اجل سواد عينيه، ومع ذلك سيظل يخسر رغم كل شيء).
آخر محاولاته التصعيدية كانت إنهاء احتجاج الأنبار. لكن عبد الملك السعدي اختصر المسافة على الجميع: ينبغي استبدال المفاوض كي نبدأ الحوار. أي اتفاق مع المالكي لم يعد يحمل صفة الصفقة الكبرى، بل مجرد تهدئة وقتية. وهذا ثمن قيادة المركبة الطويلة بأقصى سرعة وفوق كل المطبات.
كم سيستمر هدوء الحاج؟ إن أمامه اقتراعا نيابيا سيكرر خسارته، وسيكون في وسع تحالف "شيعة ضد الحرب" ومعهم عقلاء العلمانيين، أن يحصد الأغلبية الشيعية بوضوح. ومن الحاسم ان يدرك الفريق السياسي والعسكري للسلطان ان الذهاب بالازمة نحو الهاوية لن يكسبهم أي صوت إضافي. الناخب صار أذكى و"العيال كبرت" ونضجت. النفوذ والمال ليسا كل شيء يا حاج. حاول أن تجرب تلك العبارات الهادئة التي أعجبت الصحفي السعودي على الهاتف، واستخدمها مع الناس في الشهور التي تبقت لديك. حاول تجربة أشياء هادئة بعد أن أحبطك الصخب والتسرع. جرب أن تشك في أساليبك، لا من أجلك أنت ،لأنك ستختفي من المشهد بألف سبب، بل من اجل حزبك التاريخي الذي ظل يتورط في سرعتك وكلماتك الخشنة ومراهناتك المدانة من الجميع. تأمل جيدا في ما حصل خلال ١٧ شهرا، وساعد العراقيين كي يلتقطوا أنفاسهم بعد كل الشوط المنهك. ابق هادئا أرجوك.