انتظرنا الوطن فلم يأت. قلنا: فلنذهب إليه.
لكي نذهب إليه كان علينا أن نستقل قطاراًً ما، فقصدنا محطة القطار الوحيدة التي في البلدة.. لكن القطار الذاهب إلى الوطن لم يأت!
قال حكيمنا، لا أعرف من الذي عينه في منصب الحكيم: القطار تأخر، مثل أي قطار في العالم، يحدث كثيراً.
لبثنا،{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } الكهف25.. صاحت امرأة حامل أدركها الطلق: تعبت ولن أنتظر أكثر مما انتظرت، سيقتلني اثنان: الزمن والألم.
حتى جاء من يخبرنا: أن لا قطار، ثمة، وهذه المحطة مهجورة منذ عهد ثمود وعاد، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} (الفجر: 6-8).
***
في روايته (دفاتر ريغوبيرتو) الممتعة يقتبس البيروفي ماريا فارغاس يوسا مقطعاً صغيراً من شاعر تشيلي بابلو نيرودا يعرف الوطن:
الوطن
مفردة حزينة
مثل كلمة ترمومتر أو مصعد.
أن يكون الوطن ”شيئاًً“ فهذا يحط من قدسية المفهوم لكنه لا يحط من القيمة الحقيقية للوطن.. ما يحط من قيمة الوطن هو كل تلك الصيغ القطيعية التي يغيب في لجتها الإنسان فرداً، وسائر ”الاستعمالات“ الاستهلاكية التي تصادر الوطن وتضعه في إطار مسبق الصنع بين النستالوجي والآيدولوجي.
الوطني شخص متفرغ لمهنته، حرفي، مثل نجار أو طبيب أو معلم... إلخ.
ليس مطلوباً من بقية الناس، غير الحرفيين، اللامسلكيين، أن يقلًّدوا الحرفيّ، أو يمالئوه، أو يخافوه.
الوطنيّة، قسراً، هي المعادل السياسي للاوطنية.
نحن الذين أرغمنا على الخنوع - لأنه أسلم السبل لكي يكون الإنسان "مواطناًًً" صالحاً - لم يعد بحوزتنا من الوطن غير الوفاء لذاكرتنا الوطنية، وهو "وفاء" ليس خارج الصدد، صدد الخنوع للماضي، في مصادرة سمجة لأزمنة الإنسان كلّها.
الوطنية، شعاراً، قضت على أي تنوع سياسي، جماعياً أو فردياً، لأن كل من ليس وطنياً، على وفق الشعار، الذي صار ممارسة استبدادية، تحت طائلة التهمة وهي في بلداننا إدانة مسبقة.
حسب يوسا: الوطن هو الانتساب إلى أكثر التسميات صدفية، على أنها الأكثر جوهرية وثباتاً: مكان الميلاد.
الوطن، مقدساً، فوق الجميع، وكرامته فوق أي كرامة شخصية، فلا يهم إذا كان المواطن مهاناً ما دام الوطن مقدساً.
"ليس المهم الكرامة الشخصية بل المهم كرامة الوطن وقضيته" – الراحل ياسر عرفات.
من بين أسباب هزائم العرب الشهيرة هو أن الشعوب العربية، بمن فيهم جيوشهم، سيقت إلى الحروب القومية "المصيرية" وهي مذلة ومهانة ويحس الكثير من أفرادها بأنهم عليهم خوض حروب ليست حروبهم، بل حرب حكامهم الذين يهدرون كرامتهم على مدار الساعة وأوطانهم السليبة منهم قبل فلسطين السليبة.
ثمة نبتة صغيرة نمت في الوعي والخيال، تعهدتها نبتتي الشخصية رغم مدلولها، العام، مثل سنبلة وحيدة تلمع تحت شمس عراقية قاسية، لكنني افتقدتها في لحظة المنجل/ الدكتاتور، في قصيدتي "وطن الشاعر":
وطني ليس لي،
وأنا ليت لهْ
لم يكن وطني منذ خمسة آلاف عامٍ سوى غربةٍ ماثلةْ
أأدخله مثل لصٍّ
وأغادره مثل لصٍّ
ولست سوى سارق سارق النار من شرفة الله؟
إنه وطني،
وطن السنبلةْ،
كلما أوشكتْ أن تتطاول أبعد من قامة النبتِ..
ثمّة من ينتظي منجلهْ.
في انتظار الوطن
[post-views]
نشر في: 6 مايو, 2013: 09:01 م