TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مداخن ومدافن.. عبيد أم شركاء؟

مداخن ومدافن.. عبيد أم شركاء؟

نشر في: 11 مايو, 2013: 08:01 م

لا أقسى من تحويل الخسارة كشعور، إلى تحليل عددي وجداول إحصائية. والخسارة كشعور هي أمر يتاح لك في كل قطعة من البلاد، لكنها أكثر قسوة قرب البحر والنخل والنفط. وفي مكان ما من البصرة، في وسع المرء أن يشاهد نخلات عتيقة بلا رأس، وسفنا تجارية غارقة، ومداخن عملاقة لمنشآت النفط تنفث سحابة سوداء عملاقة تتكون فوق المدينة والبحر والبساتين، كأنها غول أسطوري أسود يرمق كل شيء تحته باستهزاء رهيب.
والصورة عينها مرسومة على غلاف كتاب نشر في بغداد مؤخرا للدكتور سليم الوردي عنوانه "الاستبداد النفطي في العراق المعاصر". مداخن المنشآت البترولية تنفث اللهب والسحاب الأسود، والغيوم المظلمة لصواريخ كل الحروب، ونخلات عمياء بلا رأس. والغلاف يختصر المعنى. فالنخلة رمز الحياة في بلاد السواد، عمياء ميتة. لكن الحياة لا تتوقف في مداخن النفط وغيوم الحرب السوداء. فهذه طاقة شرور لا تموت بسهولة.
شعوريا يمكن للمرء أن يرى في المدخنة البترولية سيرة ٨٠ عاما من النفط والتخبط. ويتأمل "آثار أقدام" براميل النفط التي تسربت من بين أصابعنا، وهرولت نحو سوق السلاح وصممت معارك ومقابر كبيرة، وغرورا سياسيا وحماقات ونهايات مؤلمة لشتى الأحلام. من هذه المداخن خرجت لاحقا مليارات مضاعفة تحولت فسادا وضياعا وانقسامات دموية، تثبت أن المشكلة لم تكن مجرد شرور في روح صدام حسين، بل "هوسا نفطيا" لم تجر معالجته لا بقاعدة حديثة ولا قديمة.
كتاب سليم الوردي يسجل بالإحصاءات والأعداد مؤشرات الخسارة. وقد حصل العراق منذ ١٩٣٠ حتى ١٩٨٨ على ١٧٩ مليار دولار من بيع النفط. لكنه خسر ٤٠٠ مليار في الحرب مع إيران! أي أن النار أحرقت فلوس النفط وغير النفط. ماذا دهى الأرقام يا آلهة الحساب؟ إن خسارتنا طيلة ٥٨ عاما مجرد ١٧٩ مليار دولار من فلوس النفط؟ كم أضحى هذا مبلغا تافها اليوم؟ إن ولايتين لسلطان هذه الأيام أحرقتا نحو ٦٠٠ مليار دولار يا آلهة الحساب، وهاهو الصيف الحادي عشر بعد سقوط صدام ملك الدمار، يأتي ونحن بلا حتى كهرباء. ماذا نفثت تلك المداخن طيلة سنوات إذن؟
والكتاب ليس انخراطا في نوبة بكاء نادمة. بل هو نداء للعراقيين كي يعيدوا تعريف خطر دولة النفط، وأن لا يتناسوا ذلك وسط ضجيج التلاعن السائد. في اقتصاد ما قبل النفط، كان المزارع والصناعي وقبطان السفينة، شركاء للدولة في تمشية شؤون الحياة. ومهما بلغ ظلم الحاكم فإنه كان يتذكر أن شعبه شريك في إعالة وتمويل شؤون البلاد، وسيحسب لكل ذلك حسابا قبل ارتكاب أي حماقة. لكن النفط في ثقافة سياسية متخلفة، يسخر من عقد الشراكة هذا ويحول الحاكم إلى مالك مطلق لمال كثير، والشعب إلى جماعة كسولة تأكل من صدقات الحاكم. الشريك يعترض، لكن من يأكلون "الصدقات" غير مؤهلين لاعتراض مؤثر. كل شيء سيظل رهنا بالساعات الرحمانية أو الشيطانية التي تركب روح السلطان، مستخرج المال ومنفقه على العيال الصالحين أو الطالحين.
الكتاب يسرد قصص نجاح في دول النفط المتقدمة. ويطرح السؤال الكبير: بعد قرن من الحياة مع النفط، ماذا صنع العراقيون لتجنب الفشل؟ لا جديد في أن السلطان يتشبث بمخالب الهوس النفطي، بملف الطاقة ولذلك يتأخر إقرار قانون النفط. ولعل آخر مواجهة برلمانية معبرة يرصدها سليم الوردي حصلت في أيلول ٢٠١١ حين أراد حاكمنا تمرير مجلس للسياسات النفطية يرأسه هو، بينما طلب البرلمان شخصية مستقلة تخضع لرقابة نيابية.
والمواجهة المستمرة تتعلق برفض الحاكم طلب أهل أربيل والبصرة والأنبار وسكان باقي المحافظات المنتجة، أن يكونوا شركاء في صناعة السياسات النفطية وإبرام الصفقات.
المداخن كانت تنفث الهوس في المدافن. في زمان السياسات الرثة يصبح المهندس الذي يحفر لاستخراج النفط، مثل العامل الذي يحفر المدافن. تكبر حقول البترول وتنمو مساحات الدفن البشري. انشغلنا قرنا بصناعة ملايين الثقوب في ارض العراق لامتصاص الزيت الأسود أو لإخفاء جثثنا المحروقة بالبارود. لكننا لم نجرب بعد أن نحفر بحثا عن الحلول التي وجدها غيرنا حين نبشوا قليلا في عقولهم ورؤوسهم. سليم الوردي يصرخ في غمرة تلاعن الأحزاب والطوائف: تعالوا نحفر في رؤوسنا هذه المرة، لنصحح العلاقة بين مداخننا ومدافننا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 5

  1. المدقق

    يالسذاجتك ايها العنجوكي حين لا تعرف بان الدولة العراقية تقسم ميزانيتها الى 80 % نفقات تشغيلية اي رواتب واجور للعاملين في الدولة واجهزتها و20% هي نفقات استثمارية .. اي وبلغة الارقام التي تتحدث بها ولا تعي فيها اي شيء ان 480 مليار دولار ذهبت للرواتب من مجمو

  2. DR ADIL ALI FAILY

    FIRST WAS THE PETROLEUM AND NOTHING ELSE.AS LONG AS IT WAS CHEAP THERE WAS NO NEED FOR WARS.THE SHAH OF IRAN MADE A REVOLUTION AGAINST THE PETROLEUM CONSUMENTS AND DID NOT LISTEN TO THE ADVICE OF JIMMY CARTER WHO CAME ONLY JUST BECAUSE OF THE HIGH PETROLE

  3. اسامة الحبيب

    عزيزي المدقق , اين الاشغال التي نصرف عليها ميزانيتنا اليس من المفروض ان التشغيل ينتج شيء اين هذا الانتاج او الخدمات التي نصرف الميزانية لتشغيلها , اعطني مثل عن دائرة تشغيلية تستحق هذا الانفاق وهي اليوم تقوم بعملها على اكمل وجه , مع كل الفخر لعمالنا وهم يس

  4. أحمد هاشم الحسيني

    سأترك التعليق على ما كتبه سرمد الطائي الى وقت لاحق ولكن أثار حماستي للتعليق ما كتبه القارئ المدقق وهو مثلي يواظب على قراءة ما يكتب في المدى ويعلق عليها وإن كنت أسجل مرة أخرى إعتراضي على أسلوبه الهجومي فترك باب الحرية للتعليق لا يعطي المرء الحق في أن يشتم

  5. احمد

    يالغبائك ايها المدقق تلوم الكاتب على ما تعتقده خطأ في الحساب وﻻ تكلف نفسك بان تحاسب عقلك برضاه وقبوله لتبذير الدولة ل 120 ملياردوﻻر وفقا لحساباتك العنجوكية طبعا دون ان نجد منجز واحد متكامل مثل الكهرباء، الماء، الصرف الصحي، .... خﻻل سنوات حكم سلطانك ا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram