حين كنت في نابولي قبل أشهر، التي ذكرتني حينها بدمشق وحواريها وأسواقها، كانت عيني لا تنفك تلتفت كل حين إلى جبل "فيزوف" البركاني، الذي انفجر عام 79 ميلادية، ودفن تحت ناره ورماده مدينتي "بومبي" و"هيركيولانيوم" الرومانيتين بأبنائهما وعمارتهما. أتأمل عمى العين البركانية التدميرية، وأقرنها بعمى العين السياسية التي تدمر مدن سورية جميعاً. مشهد الجبل البركاني يبعث بي الروع، والمقارنةُ مع دمشق تبعث بي الأسى. الأول يجعلني أعجب من "نابولي" التي تستريح على سفحه بأمان، يقظة على أي طارئ من الطبيعة أعمى. والثانية تجعلني أعجب من المدن وأبنائها يحترقان، بفعل غفلة عن التاريخ الذي لا يقل عمى عن الطبيعة.
وبسبب تسارع الوقت في زيارتي لـ"نابولي" لم أستطع زيارة بقايا "بومبي" بعد الحفريات العلمية التي كشفت عنها في مطلع القرن التاسع عشر، ولا زيارة متحفها. وها هو المتحف البريطاني في لندن يوفر لي هذه الفرصة، في معرضه المثير الذي زرته مؤخراً: "الحياة والموت في بومبي و هيركيولانيوم".
الغريب أن الرماد الذي طمر بومبي قد أسهم في الحفاظ على أهالي المدينة وأشيائها. تعرف ذلك منذ الخطوة الأولى في المعرض المدهش. فحفريات المدينة المفقودة بدأت في 1805، ولكن في 1863 تم العثور على تجاويف في قلب الرماد المتكلّس تحمل بصمات مخيفة من الوجوه، والأجساد، والملابس، اكتشفت فيها عالمة الآثار جوزيبي فيورلي فراغات في طبقة الرماد تحتوي على بقايا بشرية. ففهمت أن هذه الفراغات ليست إلا ما خلفته تلك البقايا من الجثث المتحللة. وهكذا استخدمت تقنية زرق الفراغات بمادة الجبس لإعادة إنشاء نماذج ضحايا فيزوف. وهي تقنية مازالت مستخدمة من قبل فناني النحت اليوم.
بالرغم من أن عنوان المعرض يشير إلى الحياة والموت، إلا أن الموت وحده يكاد ينفرد في إلقاء ظله الثقيل عليه. ولعل الجمهور الغفير الذي أقبل عليه إنما جاء مدفوعاً بهاجس الموت هذا. فالمدينتان اللتان طمرتهما معادن البركان الذائبة بقيتا شاهداً على فاعلية القدر الأعمى والقصير النَّفَس، على غير عهد آثار المدن بالبقاء شاهداً على فاعلية التاريخ ذي النَّفَس الطويل. القدر الأعمى هنا ماثل أبداً، لازمني، ومهدد بمعاودة غزواته. والإنسان لا يغفل ذلك. ألم يحدث له أن أظهر مخالبه من الماء هذه المرة، في "سونامي" المحيط الهندي عام 2004؟
المعرض يقدم عينات مؤثرة من حياة المدينتين: هيئات بشرية جاهزة لإعطاء صورة عما كانت تفعله لحظة انقضاض المعادن الذائبة، عائلة من زوج وزوجة وطفليهما كُلّسوا في لحظة فزع. آخر حركة من كل واحد منهم بقيت كما لو في لقطة فوتوغراف. الأكثر تأثيراً هو حركة الطفل الذي يحاول أن يقف وهو في حضن أمه الميتة.
جناح خُصص لنموذج "فيلّا" لعائلة غنية. الحديقة الوسطى المزينة بالنوافير والتماثيل. غرف النوم المتلاحقة. المطبخ العامر المُلحق بجناح خاص بتناول الطعام. والجدران جميعاً مزينة بلوحات الفن. واللافت للنظر أن كثيراً من اللوحات تتميز بالجرأة، كما نراها اليوم، في تناول ممارسة الجنس، خاصة في غرف النوم.
الأمر الذي يكشف عن الطبيعة العملية لدى الروماني. فالفن والحياة فاعليتان موحدتان. والشاهد على هذا لوحة مدهشة لزوجين على سرير نومهما، يحاولان طريقة جديدة لممارسة الجنس، وعلى مقربة منهما عبدٌ جاهز لخدمتهما.
والعبودية أكثر إثارة للانتباه في الحياة الرومانية. فنصف سكان المدينتين (15 ألف نسمة في بومبي، وخمسة آلاف نسمة في هيركيولانيوم) هم من طبقة العبيد، أو من العبيد الذين حُرّروا. وهي طبقة يستخدمها الرومان كما تُستخدم الآلة. وينعكس هذا في اللوحات بصورة خاصة. على أن بركان فيزوف كان عادلاً في نقطة واحدة فقط. فحين نشب مخالبه لم يفرّق بين فقير وغني، وبين رقيق وحر.
حين تركت المعرض كنت مغموراً بدهشة من تُلم به لحظة نباهة للتاريخ. على ان دهشتي كانت رمادية بأسى عميق.