لقد مر زمن طويل على أكبر المحكمات التي جرت ضد نازيين قدماء في تاريخ المحاكم الألمانية. أصبحت في عداد التاريخ. وما كان من الممكن تذكرها الآن، لو لم تبدأ قبل أيام في مدينة ميونيخ الألمانية وعاصمة إقليم بارفاريا محكمة جديدة، بالتأكيد ستدخل التاريخ أيضاً، لأن من يقف أمامها نازيون جدد، ينتمون إلى منظمة أن أس أو (الاتحاد الاشتراكي القومي)، ولا يهم أن لا أحد يعرف حتى الآن المسارات التي ستتخذها هذه المحكمة ، خاصة لما سبق انعقادها من تشويش وفوضى وغموض، ابتداءً من تأجيل انعقادها لمرات عديدة، مروراً إلى الطريقة التي وُزعت فيها المقاعد الضرورية للصحفيين في المحكمة خاصة للصحفيين العالميين، خاصة القادمين من البلد الذي ينتمي إليه أغلبية الضحايا، وانتهاءً بصغر مساحة صالة المحكمة.
طبعاً ليست الغاية هنا هي مقارنة المحكمة هذه بمحاكم نورمبريرغ الشهيرة التي جرت ضد مجرمي الحرب النازيين بين 1945 و1949 أو محاكم معتقل العمل النازي آوسشفيتز في فرانكفورت سنوات الستينات. حجم وأبعاد المحاكم تلك كانت ضخمة، إن لم تكن فريدة من نوعها في التاريخ، حيث أُستخدم للمرة الأولى اصطلاح "جرائم ضد الإنسانية". رغم ذلك هناك خط يربط بين محاكم النازيين القديمة والمحكمة الجديدة. الاتحاد الاشتراكي القومي، المنظمة التي ينتمي له المتهمون، في النهاية كان واضحاً في عمله على أية تقاليد يسير: الوصول عن طريق القتل إلى شعب نقي صاف من كل شوائب أجنبية.
قبل عام ونصف تم الكشف عن المجموعة النازية الجديدة هذه، ولا يزال حتى الآن من الصعب فهم: كيف أن مجموعة إرهابية تضم نازيين جدد مثل القتلة هؤلاء استطاعت أن تصول وتجول وبالذات في ألمانيا، بلاد النازيين القدماء قرابة عشر سنوات، تسرق وتضع القنابل وتقتل عشرة أشخاص، بحرية ودون إزعاج من أحد؟ لماذا كان الجميع عميان إلى هذه الدرجة، ابتداءً من الدولة بما تملكه من أجهزة شرطة وأمن ومخابرات وحكومة وقضاء، مروراً بالمجتمع بكل ما يملكه من منظمات مجتمع مدني وأحزاب ونقابات، وانتهاءً بالصحافة التي لم تملك الحماس بفضح الأسباب الخفية التي كمنت وراء قتل 10 أشخاص، قُتلوا بالمسدس ذاته؟ لماذا كان الجميع، الدولة والمجتمع والصحافة يتحدث عن ضحايا للمافيا التركية، ولا يكتفي بهذا الشكل بتجاهل موت عشرة مواطنين، بل سيهينهم أيضاً؟ ليس ذلك وحسب، بل راحت الشرطة وكلما حدث قتل جديد، وسقطت ضحية جديدة، تستجوب ذوي الضحايا السابقين والذين يعيشون في محيطهم عن علاقتهم بجريمة القتل؟
بالتأكيد لن تستطيع محكمة ميونيخ تقديم جواب شامل لكل الأسئلة تلك. لكن عليها أن تنجح بتقديم الأدلة الكافية التي في حوزتها لكي تستطيع أن تحكم بالإدانة على عضوة المجموعة النازية الوحيدة تلك والتي لا تزال على قيد الحياة، بيآتة تشيبة وعلى المتهمين الأربعة الآخرين، المتهمين بمساعدتها. خاصة أن المدعي العام يتهم بيآتة تشيبة بارتكاب عشرة جرائم قتل (ثمانية مواطنين أتراك، مواطن يوناني، وشرطية ألمانية). المتهمة نفسها تصمت، ومحاموها صرحوا منذ إلقاء القبض عليها، أن موكلتهم ستصمت، وستظل محافظة على صمتها، من غير المهم الوقت الذي ستستغرقه المحاكمة.
أنها ليست محكمة عادية إذن، بل هي تحدي للديمقراطية والقضاء في ألمانيا. الأمر ليس كما هو في بلد مثل العراق، تحدث فيها يومياً أنواع الجرائم، دون النجاح بتقديم مرتكبيها للمحكمة. في الديمقراطيات الغربية، ارتكاب جريمة أو قتل إنسان، هي أحداث تهز المجتمع. عشرة مواطنين قُتلوا بدم بارد في ألمانيا على مرّ السنوات الماضية، ولأسباب عرقية، وتلك سابقة خطيرة في بلد ديمقراطي مثل ألمانيا. من هنا تأتي أهمية المحكمة. فالرأي العام في ألمانيا، خاصة منظمات المجتمع المدني، إذا لا نتحدث عن الجالية التركية والمسلمة عموماً، تطالب بوضع الحقائق على الطاولة. صحيح أن المحكمة لن تستطيع الكشف عن كل الحقيقة التاريخية، لكنها رغم ذلك، تستطيع التوصل إلى الحقائق التي ساعدت على حدوث الجرائم،، لكي يصدر منها في النهاية حكم مقنع، لا تستطيع محكمة تمييز وضعه موضع شك وتعترض عليه. فقط بهذا الشكل ستلتئم جراح ذوي الضحايا. وفقط بهذا الشكل تتعلم ديمقراطيات ناشئة، كما هي الحال عندنا، إن قتل الإنسان، أي إنسان، لن يذهب بدون عقاب!
نحن ومحكمة النازيين الجدد
[post-views]
نشر في: 14 مايو, 2013: 09:01 م