TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أطلس للفرق غير الناجية

أطلس للفرق غير الناجية

نشر في: 14 مايو, 2013: 09:01 م

سئمت صباحا من نشرات الاخبار فهربت الى التاريخ، وأنا اسأل: ماذا كان يحدث في ١٩١٣ و١٨١٣ و١٧١٣.. الخ؟ وقبل عامين اشتريت عملا عظيما في مجلد واحد يحمل عنوان "اطلس التاريخ" حيث قام الالمانيان كندر وهيلغيمن بعمل مثير للاعجاب، فكما ان للجغرافيا اطالس تشرح المكان، يمكن ايضا ان يكون هناك اطلس للزمان، يبدأ منذ الانسان في العصر الحجري حتى عام ١٩٩٠. فالزمان "مساحة الحركة" في الفلسفات، كما ان الجغرافيا مساحة الماء واليابسة والفضاء.
بدأت بعام ١٩١٣ فوجدته بوابة حرب كونية وقعت بعد سنة. لكن مركز ازماتها كان داخل اوربا، وفي البلقان حيث تتصادم ارادات الجميع كان التاريخ يحتاج حربا طاحنة اشتعلت في تموز ١٩١٤ في الحكاية المعروفة.
التفاصيل تستعيد قصصنا المرعبة وتجعلني اهرب في لعبة الصباح الى قرن آخر وافتح الاطلس على ١٨١٣. لكن هيهات ان يختفي سجل الآلام، فبطل هذه الحقبة هو نابليون الذي جعل فرنسا تحارب الجميع، وحين حصل جنده على هدنة في حزيران قال الامبراطور "هذه اكبر حماقة في حياتي". وظل يواصل مغامراته ليتبدد آخر جيوشه في معركة واترلو.
لكن التاريخ "المئوي" الذي اتسلى عبر التجوال فيه اليوم، يحمل علامة دالة في القرن الاخر حين نصل الى ١٧١٣. ففي هذا العام انتهت حرب تخوضها اسبانيا مع الاوربيين استمرت ١٤ عاما وكانت بحجم حرب عالمية لاتساع جبهاتها حتى المحيطات البعيدة، وتوج الامر بمعاهدة سلام دولي ابرزت دور بريطانيا كحكم مباراة وأقوى مركز مالي يدير سياسة التوازن. وستظل "الحلول" عند هذا الحكم لاحقا.
لكن الحروب لم تكن صراعات قبائل وعشائر هذه المرة، بل نزاعا مشرعا على بوابات الهند وتجارة الفلفل والقطن وذهب اميركا، والاهم ان الحرب خلقت تنافسا لاكتشاف كل شيء. فالاطلس يضع جدول منجزات علمية من ١٦١٣ حتى ١٨١٣ يشمل اكتشافات من طراز اللوغاريتم والهندسة التحليلية، وتطوير قوانين الجاذبية ورسم خريطة للكون، وقياس سرعة الضوء والاسمنت والمجهر وحتى "درفلة الحديد" وصولا الى المحرك البخاري والسيارة (١٧٦٩) ثم المنطاد والسفينة البخارية. وبموازاة هذا كله صعود للفنون ومدارس الفكر والإصلاح الديني والسياسي، الذي انشغل بسؤال ادارة الخلاف علميا وأخلاقيا، وهيأ للغربيين ان ينجحوا في ابعاد دوائر الصراع عنهم نحو البلدان البعيدة.
وفي هذا الاطلس يجري رصد اوضاعنا كشرق اوسط، منذ العصر الحجري ثم حقبتنا الذهبية الاولى والثانية، لنختفي بعد ذلك ونصبح "خبرا لا يستحق التسجيل". ففي القرون الاربعة الماضية كنا نتقاتل ايضا، لكن كقبائل تبحث عن انتصارات محدودة وتغرق في الجهل.
كان الغربيون يموتون وهم يفكرون بسبيل للخلاص، ويطورون مشروع اصلاح شامل. يد على الزناد وأخرى تقيس "سرعة الغاز وميلان الامواج الضوئية"، وسفنهم تكتشف القارات واليابسة البعيدة.
وكنا نموت ايضا، ونتقاتل، بل وننتج الافكار كذلك على نطاق ضيق، حيث تزدحم معابدنا بأذكى المسلمين، لكننا أنتجنا افكارا انهمكت في محاولة اكتشاف "الفرقة الناجية" التي لن تدخل جهنم. ومعظم ما انجزناه كان لاهوتا ينمي اساس الحرب الداخلية، حول من سيدخل الفردوس ومن سيعبرها الى النار.
والنتيجة اننا أصبحنا بلا اي فرقة ناجية، فكل فرقنا ترتع في ألف نار، وطرائق حياتنا تهدم الاركان الثلاثة التي احتاط فقهاؤنا الاوائل فيها: الدماء والفروج والممتلكات!
هدأ الكون وتقدم. وحتى "الشعوب نصف العارية" في آسيا البعيدة والذين تحدث عنهم الفرنسي بورنييه في قصيدة عصماء يعالجها ادورد سعيد في استشراقه، صارت اليوم أمما تصنع الحواسيب اللوحية والتقنيات الحساسة، بينما نهدر منذ قرن بترولنا ودماءنا دون ان نعثر على صيغة سياسية تدير الخلاف دون كلفة وتسمح بالتقدم.
العالم حزين على صدر انجلينا جولي التي تخاف الأورام الخبيثة، ونحن ننهمك في قتل بعضنا بحثا عن فرقة ناجية. تقرأ في صحف طهران سؤالا واحدا: متى الحرب؟ ولا يختلف الامر في المانشيت اللبناني والعراقي والخليجي. وهل ستنجو فرقة لو نشبت حرب؟
وليت شعري من اين جئنا بكل هذه الانانية الى درجة اننا لا نريد "نجاة جماعية" بل نصر على ان تنجو فرقة واحدة وليذهب باقي اتباع السماء الى الجحيم؟ وهل يمكن لأنانية كهذه ان تنتج سلاما او حوارا تفاوضيا؟ ومتى سنفرغ من وضع أطلس للنجاة والهلاك، ومتى ستنتهي عقولنا من تحديد الفرقة التي يحق لها ان تنجو، لعلنا نتفرغ يومها لتعلم صناعة الحاسوب اللوحي من الشعوب "نصف العارية"، ولكن نصف العاقلة أيضاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 11

  1. اسامة الحبيب

    ( من اين جئنا بكل هذه الانانية الى درجة اننا لا نريد نجاة جماعية بل نصر على ان تنجو فرقة واحدة وليذهب باقي اتباع السماء الى الجحيم؟)هو ادق سؤال سمعته , هي دراما عيشونا بها الوعاض فا بدل ان يعملوا ب ( وقل اعملوا ) صاروا يعملون ب ( قاتلوهم ). للاسف صرنا

  2. عبد اللطيف العلو

    اخي سرمد .....انها ماساة حقيقية مستمرة نعيش فصولها اليوم بابشع ما تكون عليه حالة بشر .... كان لدي مقترح وقد ارسلته الى الامين العام للامم المتحده ....اعتقد نحن بحاجة الى تطبيق هذا المقترح اولا لنبدا الخطوة الصححيحة التالية . تستطيع ان تقراه في الحوار المت

  3. علي المدرس

    في كل مكان تجد الخير والشر وهذه هي سنة الحياةولكن العاقل الذي يعرف كيف يتصرف بين الحالتين

  4. علي شريف

    يبدو ان الاخ سرمد لم يقراء الاطلس بشكل جيد ..وتناسى القتال الطائفي ومحاكم التفتش والاحكام الغريبة وشديدة القسوةونسى جان فالجان او بسمارك او ماجيو ...لا توجد دولة قامت بلا دماء وهذا التاريخ واقراءة ..دول الاسلام من بدر للردة للخوارج للقادسية لليرموك...هل ك

  5. علي ابراهيم

    الفرق بيننا وبينهم كبير فهم اقتنعوا بان الجنة والنار والتفريق بين المحق والباطل والاخيار والاشرار هي من مسؤوليات الرب الذي خلقهم فتركوها له وانصرفوا لما هو فيه السباق من اكتشافات واختراعات ونظريات وجودية لا صلة لها بالالوهية اما نحن فاخذنا نتنازع على مناص

  6. ابوكرار الفريجي

    لا اعلم سبب اصرار الاستاذ سرمد على عدم وضع الامور في نصابها حتى في اوضح الواضحات خصوصا وهو يتكلم عن الفرق الاسلاميه متناسيا من هم دعاة التكفير ومن هي الدول المنتجه والمسوقه لهذا الفكر الذي ابتدعه الامويون وتيناه السلفيون والوهابيون واستفاد منه السلاطين و

  7. عادل الشاهين

    مهما تشعبت الآراء وتنوعت الميول الفكرية فهناك ثوابت عقلية لايمكن ان نتنكر لها لأن في ذلك تضييعا للعقل والذي هو الفيصل بين الحسن والقبيح وبين الحق والباطل فلم يكن الحق يوما يعرف بالرجال ولكن عندما نعرف الحق سوف نعرف اهله وكيف لنا ان نتخذ طريقا سليما نسير ع

  8. د.فارس شلاش

    مقال اكثر من رائع متى سيفهم الاسلاميون ان افكارهم تاكل بناء الاوطان كما ياكل الجراد الثمر ومتى يفهم الاسلاميون الشيعه بانهم لايفرقون شيئا عن الاخوان المسملون او السلفين

  9. محمد فوزي

    شكرآ على المقالة فيها بعض ما يستحق التعليق. القران يذكر يأيها الذين أمنوا أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبآ وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم من اين جابوا بهذة الفرقة الناجية هل هيه بدعة ام هي مقولة ام ماذا

  10. عمر العراقي

    السلام عليكم ورحمة الله الفرقة الناجية ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاحاديث الصحيحة ولله الحمد الله يقول هل يستوي الاعمى والبصير ؟ افنجعل المؤمنين كلمجرمين ؟ مالكم كيف تحكمون ماذا تريدون تريدون بلد العرق والزنا منتشر ؟ والعلمانية واللبرالية تحكم

  11. احمد خضير

    لاول مرة اجد في ما تطرح ابتعاد عن عن ردات الفعل النفسي عندك اخ سرمد،،، ولعلك طرحت سؤالا مهما ((من اين جئنا بكل هذه الانانية الى درجة اننا لا نريد نجاة جماعية )) وهذا يدعوني الى القول: ان من يرى في نفسه انه من الفرقة الناجية لماذا ينجذب الى قتل الاخرين وق

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram