للمرة الثالثة تجمعني جلسة خاصَّة مع الفنان، كريم منصور. وللمرة الثالثة يُدخلني إلى معبد الأغنية العراقية الأصيلة، ويعمدني هناك ببراعة كاهن، كاهن لا يستخدم الماء المقدس كما هي عادة الكهان، لكنه يستخدم بدلاً عنه صوتاً متبلاً بنشيج الهور وحزن شواطئه التائهة.
ومع أن كريم منصور اخذ حظاً وافراً من الشهرة، ويكاد أن يهيمن على ذائقة شريحة واسعة من العراقيين، إلا أنه، شأن كل مبدع عراقي، يعاني من لعنة الضياع في العراق، وكأن العراق بحر من رمال متحركة لا يستطيع أن يقاوم التهامها أكبر عفاريت الإبداع وعمالقته. ولذلك إذا ما أردت أن تحصد كامل زرعك فعليك أن ترتمي بأحضان بلد آخر. وهذا ما لم يحصل مع المصريين مثلاً، فلدى المصريين ثقافة قادرة على تسويق مبدعيها، لديها قدرة كبيرة على إنتاجهم وإعادة إنتاجهم من جديد، عندنا الوضع مختلف ولا أعرف السبب.
كاد لقاء العمالقة، الذي حدث بين كاظم إسماعيل كاطع وكريم منصور، أن يجعل منهما أسطورة تهز الذائقة الناطقة بالعربية، لكن حروب العراق وحصار العراق واحتلال العراق، أكلت معظم الفن الذي انطلق في الثمانينات. وأكلت، بالتأكيد، التعويذة الإبداعية التي تلاها على رؤوسنا هذان العملاقان.
الأغنية التي أنتجتها هذا اللقاء، غائرة في الحزن العراقي ومتمسكة، حدّ الجنون، بأصالته وقدرته على إيقاظ الذائقة المولعة بالألم. لذلك لن تستطيع أن تسمع صوتاً قادراً على رشك برذاذ من النشيج مثل هذا الرذاذ:
يا مهر الصبر ما كضك اعنان، نسمع بس صهيلك وين شارد؟
كل ساعة وتعتني اچفوف بطران، وانا جلد العليه اقماشه بايد.
فها هنا ألم لا تستطيع أن تدَّعيه غير الذائقة العراقية المطاردة بأحزانها، وهي ذائقة لا تستسيغ صوتاً لا يتشح بالألم أو لا يملك قدرة على إيقاظ مارده النائم داخل أعماق روحها المعذبة.. صوت يستطيع أن يوصل الدلالات التي تريد الوصول إليها هذه الصورة الشعرية:
دفنته وجيت؟
أي والله، دفنته وجيت.
والك رجلين جابنك مشي ورديت؟
أي والله دفنته وجيت.
والك چفين تتحنه بتراب المكبرة وما تستحي من الميت؟
أي والله، دفنته وجيت.
مدام اتكول أي والله، دفنته وجيت. چا هو العدل وانته صفيت الميت.
مثل كريم منصور لا يجب أن يقلق على مصيره، ويتردد كثيراً عندما يُطلب منه، ترك وظيفةَ مدير مدرسة في المنفى، والعودة إلى الغناء في العراق، مثل كريم يجب أن يكون مترفاً ولا يفكر بغير فنه، لكن للضياع في العراق رب لا يعرف معنى الإبداع.
كاهن الترانيم الحزينة
[post-views]
نشر في: 15 مايو, 2013: 09:01 م