اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > أبو نؤاس شارع السمك يقضي الليل وحيداً حالماً بالفرح

أبو نؤاس شارع السمك يقضي الليل وحيداً حالماً بالفرح

نشر في: 18 مايو, 2013: 09:01 م

منذ عقود هو ودجلة عاشقان لم يفترقا  أبدا، ولم يفكرا بالجفاء،تكحل أرصفته بضفاف خضر تمتزج عطورها مع رائحة دخان السمك المشوي ،وهو يقبلها بالفرح والشعر وأصوات الغناء الأصيل ولوحات الفنانين، فتجد نفسك بينهما وسط مسرح تعزف فيه سيمفونية ألق الحياة،لا ح

منذ عقود هو ودجلة عاشقان لم يفترقا  أبدا، ولم يفكرا بالجفاء،تكحل أرصفته بضفاف خضر تمتزج عطورها مع رائحة دخان السمك المشوي ،وهو يقبلها بالفرح والشعر وأصوات الغناء الأصيل ولوحات الفنانين، فتجد نفسك بينهما وسط مسرح تعزف فيه سيمفونية ألق الحياة،لا حزن هناك سوى شكوى لذيذة لشاعر ما،أو حسرات عاشقان جاءا يغفوان بحضن دجلة،كل شيء فيه ترف حياتي لا يوصف،النهر والشارع يجمعهما مشهد غزلي بوقوف شهرزاد وشهريار شامخان بينهما ،وهما يرويان للعاشقين الجدد أسرار ألف ليلة وليلة،وعلى بعد عشرات الأمتار يقف أبو نؤاس مدافعا عن علمانية النهر والشارع مرددا بزهو"مالي وللناس كم يلحونني سفها...ديني لنفسي ودين الناس للناس"،ايه أبو نؤاس لو قلتها الآن لوجدت الآلاف من كواتم الصوت بانتظارك،يا ترى ماذا تبقى من ذلك الزمن الجميل،بالتأكيد لا أقصد زمن صدام لان زرع زمنه مازلنا نحصده قيحا ودمارا على وطن مبتلى ومواطن محبط من حاضر أسود ومستقبل أقبح سواد بالتأكيد ،مادامت قافلة بناء الوطن بقيادة عقول وضمائر أدمنت سرقة بضائع القافلة.

شهادة ميلاد الشارع

أبو نؤاس.. شارع بطول العمر، بحلاوة مرارته إن وجدت، وبمرارة حلاوته إن اختمرت بعقل مازح أسكره الطيش. مجيد نوري وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية في حي البتاوين الواقع بالجهة الملاصقة لأبي نؤاس يقول: شهادة ميلاد الشارع تشير الى العام 1934، وشق النهر على أنقاض سدة ترابية عملت من اجل تفادي فيضان دجلة، وبدأ العمل بالشارع منذ العام 1932، ممتدا من نهاية شارع الرشيد مرورا من تحت جسر الملكة عالية "الجمهورية حاليا" وانتهاءً بالجسر المعلق محاذياً لنهر دجلة من ضفته الشرقية. ولم يكن الشارع بهذا الاتساع في بدايته كما يقول نوري، حيث كان عرض الشارع أربعة أمتار فقط  ويمتد شارع أبي نؤاس من الجدار الجانبي لثانوية الراهبات "العقيدة حاليا" حتى حي الجادرية قبالة مجمع المنطقة الخضراء التي تضم مباني السفارة الأميركية والبريطانية ومكاتب الحكومة العراقية والبرلمان.
المقام والكحول والشواء
وفي بدايته كان الشارع ملاذا لمحال وأكشاك بسيطة تباع فيها السندويشات والعصائر والمشروبات الغازية الشائعة في ذلك الزمن الذي لا ولن يعود.يقول  الكاتب محمد علي البغدادي في مقالته(أحزان أبي نؤاس):ينفرد السمك والجرداغ بأكثر شحنات شارع أبو نؤاس وخصوصياته فجموع الزاحفين من الأسر العراقية كانت تشترك في تذوق السمك بطريقة المسكوف التي اختلف في أصلها وموردها،ويضيف البغدادي أما الجرادغ ومفردها جرداغ فهي خيم كبيرة تتوسط المساحات الرملية بعيدا عن حشد الكازينوهات تتوفر على ما يحتاجه من أدوات طبخ ومنام تضم جموعا من أصدقاء بغير التعريف غالبا ما يقضون ليالي القيظ على إيقاعات الغناء التي يغلب المقام عليها والكحول والشواء وأشياء أخرى،ليس من ضابط لحضورهم وانصرافهم فالكثير ينام في الجرادغ ويذهب الى عمله صباحا ،فيما يقطع قسم سهرته لدوافع عائلية ويذهب آخر الليل بعد ان يطلب مركبة(تكسي) من مكاتب النقل السهرانه للفجر للخدمة ،فيما يغط الكثير بالنوم ولا يفارق الجرداغ حتى عودة الشط من إجازته في الشتاء.
جرداغ  نوري سعيد
البغدادي يقول كان جرداغ أبو صباح(نوري السعيد) في أيامه مع مجموعة جراديغ لايعرف أبو صباح أكثر أفرادها، ولم يطلب يوما معلومات عن جيرانه الذين يستعين بهم أحيانا بعد  نفاد عرق العصرية المستساغ عنده كثيرا ،وثابت سمك المسكوف كجزء من أفراح الشط لرواد كازينوهاته التي كان لها  بلا شك برلمان عراقي بامتياز،والدليل عندما أبدى السياسي  العراقي عبد الرحمن عارف رأيا وسط أعراس الشط المحتفي بأناسه  وكان حينها رئيسا للجمهورية تناول فيه صغار العمال واثر السهر على صحتهم.

حفلات مجانية لأشهر مطربي الفن
اترك البغدادي وأعود الى الشارع لأتنفس منه ما تبقى  من عبق الماضي الجميل ،حين كانت العوائل البغدادية في سبعينات القرن الماضي تسهر الى الفجر على حفلات تقام في متنزهات الشارع لأشهر مطربي ومطربات العراق،والفنانون يتبارون في تقديم الروائع من الأغنية السبعينية،هنا أرقصت الجمهور لميعة توفيق ببحة صوتها الجميل وهي تردد(يمه اهنا يمه ) ،وهناك غنت أنوار عبد الوهاب (داده حسن )‘وسيتا هاكوبيان وهي تغازل الحبيب (صغيرة جنت وأنت صغيرون) وحسين نعمة يردد (ينجمة)،وفاضل عواد يزهو برائعته(لاخبر ...لا جفية لا حامض حلو ولاشربت)،وسعدون جابر يحلق بالجمهور عاليا بطيوره الطايرة،وياس خضر يخاطب الجمهور(مدللين أحباب كلبي مدللين) وعبد الجبار الدراجي يستنجد جرحه الجديد بالطبيب صادحا(دكتور جرحي الأولي عوفه)،وينتشي الجمهور طربا بمحمداويات رياض احمد،وترقص الصبايا مع الشباب على غيتار وصوت الهام المدفعي ووووووووووووووو،وجميعها مجانا بتنظيم من دائرة الفنون الموسيقية،أين نحن اليوم من ذلك الثراء الفني وسط دولة حديثة بعض رجالتها تحسب الغناء والموسيقى حراما ؟ متناسين إن القرآن ميز بين الصوت العذب والصوت القبيح حين قال (إن اكره الأصوات لصوت الحمير)، ودليل كرههم للفن هو عدم خروج وزير الثقافة مثلا أو أي مسؤول حكومي بنعي ملحن العراق الكبير الفنان طالب القرة غلي في حين تسارع حكومات البلدان الأخرى الى تشييع  فنانيها بمراسيم حكومية كبيرة،ولكن لله في خلقه شؤون وشجون.
قبلة فرح
صاحب شركة ديكور المواطن عبد الزهرة الساعدي مواكبا لحركة الشارع منذ عقود يقول إن : الشارع يتمتع بخصوصية ثقافية وفنية وسياسية وسياحية،فالشارع موقع ستراتيجي للشاعر والروائي والقاص والناقد والرسام والممثل والمطرب ،لذا تجد الكازينوهات تملأ ضفاف دجلة لتكون مقرا لتلك الشريحة المهمة من المجتمع ،والأجمل من ذلك بان الشارع لم يضم شريحة سياسية معينة ،لذا تجد الشيوعي موجودا والأحزاب القومية كذلك ،وكل واحد منهم يدلو بدلوه ويبين الساعدي إن : العديد من المقاهي التي كانت ملتقى المبدعين تأسست في الشارع وحتى مقهى المعقدين الموجود في إحدى شوارع البتاوين تأسس لقربه من أبي نؤاس وكان ملتقى الأدباء والشعراء،يطرحون به أفكارهم وإبداعاتهم ،مضيفا بان الشاعر عبد الوهاب البياتي تجده جالسا في محل للخياطة يمتلكه شقيقه،وتجد الحصيري يجوب الشارع ذهابا وإيابا، وأتذكر إن الشارع كان محط اهتمام الأجانب من السائحين ،الذين يعدون الشارع معلما سياحيا مهما ،لذا يصرون على زيارته والتمتع بأكل سمكه المسكوف ،ويختتم الساعي حديثه قائلا كان الشارع قبلة فرح وسعادة للعراقيين بجميع مكوناتهم ،ولم يكن حكرا لطائفة أو قومية أو دين.
علمانية الشارع
أبو نؤاس شارع  علماني بامتياز، ففي الوقت الذي كان فيه يزدحم بالنوادي والقاعات الكبيرة فضلا عن الفنادق الكبيرة والحديثة في بغداد، يخلو الشارع تماما من أي مظاهر أو وجود ديني ،فالشارع ليس فيه جامع أو حسينية أو كنيسة أو معبد ليقول للجميع أنا عراقي خالص،والسؤال هل استمد الشارع علمانيته من شاعره أم من دجلته أم من رواده أم من البيئة التي ولد فيها والمجتمع الذي قضى طفولته فيه،المبررات الأربعة تحتاج الى دراسات وبحوث من عقول متخصصة ،اما أنا برأيي المتواضع أقول إن الأسباب الأربعة المذكورة اجتمعت كمربع متساوي الأضلاع  بتأسيس علمانية الشارع،فالشاعر أبو نؤاس  الذي اشتهر بالخمرة وذاع صيته بتجرده من المحرمات الدينية ،جعل من شارعه  منطقة مهجورة  من جميع الشواخص الدينية وتحريم التقرب منه بأوامر المرجعية الدينية،في حين كان جاذبا ومرتعا خصبا للجاليات التي تمتهن صناعة وبيع الخمور كاليهود والمسيحيين الذين سارعوا بفتح حاناتهم ونواديهم الترفيهية فيه مما جعله شارعا سياحيا جاذبا للشريحة المثقفة أدبيا وسياسيا،وحتى للسائحين من الأجانب،الذين يواكبون على زيارته لشرب عرق حاناته المعتق وأكل سمك دجلته المسكوف في مطاعم لا تقل عددا عن نواديه،فكان تأثير رواده واضحا في ذلك.
دجلة نهر علماني
اما تأثير دجلة فيه ففي اعتقادي إن دجلة نهر غير ديني على عكس الفرات فهو نهر ديني باقتدار لذا تجده مذكورا بالقرآن على عكس دجلة الذي نفي منه،ثم ان الفرات شهد الكثير من الثورات الدينية وأولها ثورة الحسين  (ع) الذي مرقده ومرقد أبيه الإمام علي  وأخيه العباس والكثير من الأولياء جميعها تقع على الفرات،وكذلك مروره بمناطق متدينة مثل الأنبار مدينة المآذن ،على العكس  من دجلة الذي يأتي من فيش خابور في محافظة دهوك تلك المنطقة  التي كانت يوما ما موطنا لبناة الإمبراطورية الآشورية ،ثم ينساب متباهيا بعلمانيته باتجاه نينوى عاصمة آشور المعروفة بتعدد الطوائف والأديان والقوميات،ويستمر النهر صوب أبو نؤاسه ثم ينساب الى مدن البابليين والسومريين في الجنوب،وهكذا تعددت الأسباب في علمانية الشارع.

الطائفية من الجرائم الكبرى
اما السبب الرابع فهو البيئة التي ولد فيها الشارع داخل مجتمع كان من العار على السياسي أو المثقف أو حتى المواطن ان يتعنون بغير عراقيته،ومن التهم الخطيرة ان يتهم أي إنسان بالطائفية  أو بالقومية وتعد تلك التهمة أجرم من أية خيانة كبرى،نعم كان مجتمعنا هكذا ومثال ذلك لا للحصر إن ثورة العشرين لم تكن من بطولة طائفة محددة فالجميع أسهم فيها العربي والكردي والشيعي والسني بل جميع مكونات وأطياف الشعب .فضلا عن كون جميع النوادي والمنظمات و الجمعيات المدنية التي شكلت في ذلك الوقت كان في عضويتها ،المسلم،والمسيحي واليهودي  والعربي والكردي  والايزيدي والصابئي،ولا طائفة أو قومية تتحكم بالتعيينات والدليل إن أول عميد لجامعة بغداد هو عالم الفيزياء المندائي عبد الجبار عبد الله،بعد عزل الدكتور عبد العزيز الدوري،هذا هو تاريخنا ،هذه سلوكيتنا،والجميع يسأل وأنا أولهم ألم يعرف بعض من يقودون البلد هذا التاريخ؟ألم يدرسوه؟،ألم يتعلموا منه؟،ليكفوا عنا السنة اتون فتنتهم،طائفيتهم،وإذا ما استمروا بتغذية الناس بأفكار الموت وقتل الحياة سنشك حتما بعراقيتهم،لان العراقي زهرة الحب على مر الأزمنة.
نهاية الرحلة
خرجت من شار ع  ابن هاني مستذكرا ضحايا العملية الإرهابية التي استهدفت أصحاب محال بيع المشروبات الروحية من الطائفة الايزيدية ببغداد الأسبوع الماضي وقلت لو كان أبو  نؤاس  حاضرا سينشد  حتما أبياته التي يقول فيها:
أيها الغائب في الخمر متى صرت سفيها
كنت عندي بسوى هذا من النصح شبيها
لو اطعنا ذا عتاب لأطعنا الله فيها
فاصطبح كأس عقار يا نديمي ،واسقنيها
انني عند ملام الناس فيها اشتهيها
والى  غصة عفوا حلقة أخرى من حياة شارع 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تربوي يشيد بامتحان "البكالوريا" ويؤكد: الخطا بطرق وضع الأسئلة

إطلاق سراح "داعشيين" من قبل قسد يوتر الأجواء الأمنية على الحدود العراقية

(المدى) تنشر مخرجات جلسة مجلس الوزراء

الحسم: أغلب الكتل السنية طالبت بتعديل فقرات قانون العفو العام

أسعار صرف الدولار في العراق تلامس الـ150 ألفاً

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram