اعتقدت، لزمن طويل، بأنني الوحيد الذي يكتب ويقرأ في المطبخ.
في بغداد، عندما كنت لم أزل مواطناً مع وقف التنفيذ، لم يكن في بيتنا مطبخ!
أن يفتقد المرء مطبخاً في بيته يفتقد أحد شروط المواطنة.
لم تكن لدي حتى غرفة خاصة، في أفضل وضع سكني، في مشتمل مستأجر في حي البنوك، أقمنا فيه، أمي المرحومة سكنة مزبان حرز، لتلتحق بنا أختي الأرملة، أم حسن وأولادها الثلاثة، بعد رحيل زوجها أبو حسن، ليضمنا مشتمل من غرفتين، حسب، جعلنا الأولى غرفة استقبال، لكنها غرفة معيشة للجميع، وكان لي فيها سرير.
البيت/ المشتمل كان أفضل من بيتنا في مدينة الثورة الذي لم يكن بيتاً بل غرفة واحدة تختصر الاستقبال والنوم والحمام (طست وقدر ماء ساخن) ومطبخ.. لم تكن تلك الغرفة صالحة للسكنى، شتاء، فالمطر الذي يدفع الناس في جميع أنحاء العالم إلى أن يلوذوا بالبيوت كان يدفعنا إلى الخروج من بيتنا: السقف يسرب المطر!
لم أحصل على بيت فيه مطبخ إلا في دمشق (في بيروت الحرب الأهلية كان مطبخ شقتنا الجماعية لا يتسع للكلمات).
في بيت الشاعر مخلص خليل (من يتذكر مخلص اليوم؟) في دمشق - منطقة الجسر الأبيض - جعلنا، مخلص وأنا، من المطبخ صالوناً ثقافياً صغيراً، تناولنا فيه أشد الحوارات الثقافية والسياسية حميمية، حتى علامات التنقيط ونحن نعرض لبعضنا بعضاً قصائدنا ومقالاتنا، بينما كانت أختي، سهام الظاهر، زوجة مخلص، حمامة فراتية ترعى صخبنا بهديل غير مسموع.
"الشيوعية النقدية" كانت هاجسنا ونحن نقلّب أحوال البلاد والعباد في بلدنا المنكوب بالدكتاتورية والحرب في مطبخ بيت مخلص خليل الضيق لكن المتسع لأهوال الوطن والمنفى.. مكاناً وزماناً وضيافة كريمة في ذلك البيت تستمر حتى الفجر.. مخلص وأنا كائنان ليليان.
كان مطبخاً نظيفاً يليق بالشعر والشعراء.
في دراسته (النيئ والمطبوخ) يشير كلود ليفي شتراوس إلى أن أهم نقلة حضارية في حياة البشر، بعد اكتشاف النار هي اكتشاف الطبخ.
في حلب، عندما زرت صديقي الشاعر الراحل، مبكراً جداً، مهدي محمد علي، أطلعني على نصوص شعرية جميلة كتبها في مطبخ صديق له فنان تشكيلي سوري.
أنا أكتب الآن في المطبخ، مكاناً للكتّاب الفقراء الذين لم يتوفروا على "غرفة حسنة الإضاءة" يمارسون فيها ألعابهم الجادة وغير الجادة، في لحظة على غاية الخصوصية والفردية وهم يتعاركون مع العالم ليكون أكثر رأفة وأقل اضطراباً.
الكتابة نوع من الطبخ.. تهيئ موادها الأولية بعد أن تخطط ماذا ستطبخ لطبق اليوم على أن تأخذ بعين الاعتبار أساسيات الطبخ: النار الهادئة وأن لا تكون عجولاً ولا جائعاً، وأن تكون طبختك بمذاق جديد وطبقك لا يدعو إلى الضجر، على أن "محتوى" الطعام ليس المقياس الأساس للفائدة، إنما "أسلوبك" في تقديمه لمتلقيه ومستهلكه.. هل هذا ما يطلق عليه "المثقفون": الشكل؟
ألم يقل العراقيون: العين تأكل؟
مثلما ثمة وشائج عدة بين الطبخ والكتابة، فهناك افتراقات أيضاً: المشاركة في الشعر أوسع، فوجبة الطعام قد تتناولها بمفردك، ومن يجيدون الطبخ يحملون في أنفسهم طبعاً كريماً وأريحية واضحة وهذا ما لا يكون عند جميع الشعراء، على الأقل ممن عرفت من الشعراء والطباخين، ومن الشعراء من يجبرك على "تناول" قصيدته فتستجيب مكرهاً، على رداءة طعمها، بينما يغريك الطباخ بتناول "نصه" من بعيد حيث النكهة تسبق الطبق.
ثمة طبقان، إذن، القصيدة والطعام، وكلاهما متعة وفائدة وحاجة، والزبون، دائماً، على حق في الاختيار: أن يفضل هذا "الطبق" على سواه.
المطبخ مكتب الفقراء
[post-views]
نشر في: 20 مايو, 2013: 10:01 م